د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

هل تمادى «جاك ما»؟

في بدايات نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بدت الأيام وردية أمام «جاك ما»، مالك ومؤسس الشركة الصينية العملاقة «علي بابا»، فحقق «يوم العزاب» مبيعات فاقت 74 مليار دولار خلال أقل من أسبوعين، وكان من المنتظر أن تطرح «مجموعة آنت»؛ وهي الذراع المالية لـ«علي بابا»، للاكتتاب الأكبر في العالم بقيمة تفوق 35 مليار دولار موزعة على سوقي شنغهاي وهونغ كونغ. إلا إن الوضع انقلب فجأة بعد أن قررت الحكومة الصينية تقديم مقترح يغير أنظمة شركات التقنية المالية، فارضة تشريعات أكثر صرامة لتنظيم عمل هذه الشركات. هذه التشريعات أوقفت اكتتاب «مجموعة آنت»، مما دعا «ما» إلى التذمر بشكل علني، واصفاً الحكومة بأنها تعامل شركات التقنية المالية كأنها شركات مراهنات. ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، فأعلنت الحكومة الصينية الخميس الماضي بدء تحقيقات في السلوكيات الاحتكارية التي تمارسها شركات التقنية، وتحديداً شركة «علي بابا»، وهو ما سبب انخفاضاً في أسهم الشركة بنحو 8 في المائة خلال ذلك اليوم. فكيف انقلبت الحال على «ما»، وهو الذي يعدّ رمزاً لنجاح رجال الأعمال في الصين؟
يمكن النظر إلى وضع «ما» من وجهتي نظر؛ الأولى تؤيد إجراء الحكومة الصينية ضد «علي بابا» أسوة بكثير من الحكومات التي بدأت في مواجهة كبريات شركات التقنية في العالم، مثل «أبل» و«أمازون» و«غوغل»، لا سيما أن «علي بابا» سبق أن اتُهمت من قبل شركات منافسة بممارسات احتكارية. وتجبر الشركة البائعين المستخدمين منصتها التجارية على عدم بيع منتجاتهم خارج متجرها الإلكتروني، مخيّرةً إياهم بين أن يحصروا بضائعهم في منصتها، وألا يستخدموا منصتها على الإطلاق. كما تُتهم «علي بابا» بقمع الشركات التقنية التي تنافسها، وهي التهمة ذاتها التي وجهت للشركات التقنية الأميركية مثل «أمازون». ومما يبدو على عملاق التقنية الصيني، فإن الطموح التوسعي لا حدود له، فالشركة الآن وسعت محفظتها الاستثمارية لتستثمر في الخدمات المالية والإنترنت وفي خدمات النقل، إضافة إلى هيمنتها على التجارة الإلكترونية في الصين. وما تخشى منه الحكومة الصينية هو أن تستغل الشركة هذا النفوذ لتزيد من احتكارها للسوق.
أما وجهة النظر الثانية، فهي تميل إلى سوء الظن بالحكومة الصينية التي كانت على علم بممارسات «علي بابا» الاحتكارية منذ 2017 ومع ذلك لم تقم بأي إجراء مضاد. ومما يثير الريبة أن الصين لم تتخذ الإجراء إلا بعد انتقاد «ما» المشرّعين بعد إيقاف اكتتاب «مجموعة آنت» التي كانت أشبه ما تكون بالحلم لرجل الأعمال الصيني. وزادت الانتقادات الموجهة إلى «ما» خلال السنوات الأخيرة، لا سيما مع ازدياد الكراهية في الصين للأثرياء. ويزيد عدد المليونيرات في الصين على مجموع المليونيرات في الولايات المتحدة والهند مجتمعتين، بينما يقل دخل نحو نصف الصينين عن 150 دولاراً في الشهر. والمفارقة التي تؤيد سوء الظن بالحكومة الصينية، هو انتقادها الممارسات الاحتكارية في وقت تحتكر فيه الحكومة عبر الشركات المملوكة لها كثيراً من القطاعات، مثل البنوك وبعض القطاعات الصناعية.
وما تريد الحكومة الصينية فعله هو أن تعامل شركات التقنية المالية معاملة البنوك، وذلك بأن تدعم هذه الشركات قروضها التمويلية بأصول تقلل من المخاطر المحتملة من عدم سداد هذه القروض. وفي حال طبق هذا البند، فسوف تنخفض قيمة «مجموعة آنت» بشكل كبير لأسباب كثيرة؛ منها احتمالية انخفاض نسبة القروض الممنوحة منها. وتبدو هذه المخاوف منطقية، لا سيما مع شركات التقنية المالية الحديثة التي لم تحوكم حتى الآن بشكل يتناسب مع توسعها السريع. إلا إن تزامن هذه التشريعات وبدء التحقيق في ممارسات «علي بابا» الاحتكارية، مع تصريحات «ما» ضد المسؤولين الحكوميين وازدياد الانتقاد المعلن لهم، هو ما يثير التساؤل. وسبق أن حاول «ما» إعطاء الحكومة نسبة من اكتتاب «مجموعة آنت» في بادرة سلام منه، إلا إن هذه المبادرة لم تكن كافية لتسهيل اكتتاب المجموعة.
والتساؤل يكمن في مستقبل هذه الشركات في الصين، فحتى لو قاضت الحكومات الغربية شركاتها التقنية لممارساتها الاحتكارية، فإن هذه الشركات تعلم أن الخطر عليها لا يتعدى غرامة مالية تؤخذ من مبيعاتها السنوية. لكن الوضع في الصين مختلف، فالحكومة تحكم قبضتها على البلد بكل المعاني، والولاء للحزب الشيوعي أهم لدى الحكومة من الابتكار وتوسع الشركات. إن التدخل الحكومي في الإجراءات التنظيمية للقطاعات التجارية عادة ما يفسد على مديري الشركات معيشتهم، وفي دول مثل الصين؛ قد يحبط هذا التدخل عقدين من النجاحات لـ«جاك ما».