جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

لوكربي... شبحٌ جديد

لم يكن مضى على وجودي في لندن سوى أيام قليلة، حين حملتْ الأخبار، مساء 21 ديسمبر (كانون الأول) 1988، نبأ تفجير طائرة «بان أم 103» فوق بلدة لوكربي باسكوتلندا، ومقتل جميع ركابها البالغ عددهم 259 شخصاً، من ضمنهم 190 أميركي الجنسية، و11 مواطناً بريطانياً، من سكان لوكربي، قتلوا على الأرض، لدى سقوط الطائرة فوق منازلهم.
بعد مرور يوم من الذكرى 32 للجريمة، وقبل يوم من مغادرته لمنصبه، أعلن النائب العام الأميركي ويليام بار، في مؤتمر صحافي عقد في واشنطن، عن اتهام ضابط أمن ليبي يدعى محمد أبوعجيلة مسعود بصنع القنبلة التي أودت بالطائرة، وطالب بتسليمه. وفي الأسبوع الماضي، تناقلت وسائل الإعلام الأميركية خبر اعتزام السلطات الأميركية إعادة فتح ملف القضية، بزعم ظهور أدلة جديدة، تشير إلى مشتبه به آخر، تبين وجوده مسجوناً بأحد السجون في العاصمة طرابلس.
المتهم الجديد في القضية ليس جديداً تماماً. فقد ظهر اسمه في التحقيقات الأولية، لكن المتهم المرحوم عبد الباسط المقرحي أنكر معرفته به. واستناداً إلى موقع «بي بي سي»، لم يعد اسم أبوعجيلة مسعود للظهور إلا في عام 2012 من خلال اعتراف أدلى به شخصياً، لدى اعتقاله بعد انتفاضة فبراير (شباط) 2011، إلى محققين ليبيين، قاموا بدورهم بتسليم الاعتراف عام 2017 إلى السلطات في اسكوتلندا. لكن تقارير أخرى تؤكد أن وراء اكتشافه في ليبيا صحافياً اسمه كِنْ دورنستين فقد شقيقه في الحادثة، وقام بتحقيق تلفزي استقصائي عن الحادثة، اقتضى ذهابه إلى ليبيا عام 2014، بغرض تعقبه، وتأكد من خلاله من وجود المشتبه به مسجوناً في أحد سجون طرابلس.
مجرد ظهور اسم «لوكربي» على السطح، يعيد للأذهان تفاصيل مؤلمة لمحنة عاشها 6 ملايين مواطن ليبي، وجدوا أنفسهم بين حجري رحى: نظام عسكري قمعي أحال حياتهم جحيماً لا يطاق، وأنفق ثروتهم في مغامراته السياسية والعسكرية، وحصار دولي يتعرضون له من دون ذنب ارتكبوه، وعليهم تحمل دفع أثمانه المكلفة. عودة «لوكربي» إلى سطح الأحداث حالياً، وفي هذه الظروف المربكة - سواء التي تمر بها ليبيا بشكل خاص أو العالم عموماً - تثير، أيضاً، أسئلة كثيرة، ليس أقلها: لماذا الآن؟ وبأي غرض؟ وما نوعية الهدف المنشود تحقيقه؟
كنا نظن أن ملف القضية أقفل نهائياً، عقب رضوخ نظام القذافي بتسليم المواطنين الليبيين المشتبه بهما للمحاكمة في هولندا عام 2000، بعد ثمانية أعوام من المماطلة، وصدور الحكم بسجن أحدهما المرحوم عبد الباسط المقرحي، وبراءة الآخر محمد الأمين فحيمة، في شهر يناير (كانون الثاني) عام 2001. وفيما بعد أعقب ذلك دفع تعويضات هائلة لأهالي الضحايا، وأخيراً، رفع الحصار عن ليبيا، وعاد النظام العسكري الليبي إلى المسرح الدولي، بعد تجميده لسنوات.
كنا، متفائلين، نظن أن «لوكربي» صارت تاريخاً. واتضح لنا، أن العديد من ملفات القضايا في خزائن وأدراج وسراديب الدول الكبرى، لا تقفل أو تحرق بعد انتهاء صلاحيتها، بل تُحفظ لحين ظهور الحاجة إليها مستقبلاً. وها نحن، الآن، بعد مرور ثلاثة عقود وسنتين، نستيقظ من سباتنا، لنجد «لوكربي» وقد سُحبت، فجأة، من الأرفف، ونُفض عنها الغبار، وأعيدت إلينا، بسيناريو جديد. وما علينا، شئنا أم أبينا، سوى التعايش مع تفاصيل تقلباتها الجديدة وتطوراتها، لمدة زمنية أخرى، لا يعرف مداها إلا الله، وأولو العلم في واشنطن.
استناداً إلى تصريح أدلى به لإذاعة اسكوتلندا، المحامي الاسكوتلندي روبرت بلاك، الذي عهدت إليه الأمم المتحدة بوضع تصاميم المحاكمة للمشتبه بهما في القضية في هولندا، وأصبح فيما بعد من أشد منتقديها، فإن النائب العام الأميركي المقال ويليام بار، هو من قرر إعادة فتح القضية. والسبب، أنه في عام 1991 كان يشغل منصب النائب العام الأميركي بالوكالة، وأشرف على ملف القضية وإعداد صفحة الاتهام. التقارير الإعلامية قالت إن السيد بار حرص، قبل مغادرته لمنصبه، على إعادة فتح القضية، بعد ظهور أدلة جديدة، وبالتالي يريد أن يضعها أمام القضاء مجدداً ليصدر فيها حكماً نهائياً.
ما يثير التساؤل هو لماذا حرص السيد بار على إعادة القضية، في وقت أصدرت فيه، مؤخراً، هيئة مراجعة الأحكام الجنائية الاسكوتلندية المتكونة من 5 قضاة، قراراً في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بقبول طعن تقدم به محامو عائلة المرحوم عبد الباسط المقرحي عام 2017، باستئناف الحكم القضائي الصادر عن المحكمة في هولندا، الأمر الذي يعني إمكانية إسقاط الحكم السابق، وبراءة المقرحي من التهمة المنسوبة إليه؟ وللعلم، فإن الهيئة ذاتها، وافقت في عام 2007، على الطلب المقدم من فريق الدفاع عن المقرحي بمنحه حق الاستئناف عن الحكم الصادر ضده، ولكنه اضطر للتنازل عليه، مقابل الإفراج عنه رفقاً بظروفه الصحية عام 2009.
محامو عائلة المقرحي، من خلال تصريحاتهم في وسائل الإعلام، عبروا عن غضبهم ضد قرار السلطات الأميركية، معتبرين أنه مناورة سياسية، قصد بها حرمان عائلة المقرحي من الحصول على حكم ببراءته.