ماكس هاستينغز
- رئيس تحرير صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية السابق- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
TT

«بي بي سي» وعصر الأخبار الزائفة

نشرت مجموعة من الباحثين التابعين لجامعة «زيوريخ» هذا العام، دراسة تتفحَّص حجم الخطر الذي يتهدد 18 من المجتمعات المتقدمة، جراء المعلومات المضللة الموجودة عبر الفضاء الإلكتروني. وخلص الباحثون إلى أن الدول التي تتمتع بأفضل قدر من الحماية هي دول الشمال، وعلى رأسها فنلندا بمعدل صمود بلغ 7+ أعقبتها الدنمارك بمعدل 5+، أما المملكة المتحدة، فجاءت في المرتبة الخامسة بمعدل 4+.
في المقابل، كشفت النتائج أن دول الجنوب الأوروبي تتسم بقدر أكبر بكثير من السذاجة، وفي مقدمتها اليونان بمعدل 6- وتلتها إيطاليا 5-، إلا أن الصدمة الكبرى التي خلصت إليها الدراسة فهي أن الولايات المتحدة، أكبر اقتصادات العالم، حققت معدلاً بلغ 11-.
وأشار الباحثون إلى أن الأميركيين الأكثر احتمالاً بين جميع المجتمعات الديمقراطية المتقدمة لتصديق الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة. وخلصت الدراسة إلى أن الولايات المتحدة «بها ظروف مواتية للانتشار السريع للمعلومات الكاذبة، والتعرض لمعلومات مضللة في الفضاء الإلكتروني».
وخلصت دراسة «زيوريخ» إلى وجود سمة مشتركة بين أفضل المجتمعات من حيث استقاء المعلومات الصحيحة وأقلها استعداداً للسقوط في شرك الخداع: أنها جميعاً تملك وسائل إعلام عامة قوية تتحلى بالشعور بالمسؤولية. وتسهم وسائل الإعلام تلك في جعل مجتمعاتها أقل إمكانية للتضرر من وسائل التواصل الاجتماعي الكاذبة ومصادر الأخبار المتحيزة، والتي تعد «فوكس نيوز» أبرزها.
بطبيعة الحال، تملك المملكة المتحدة مؤسسة «بي بي سي»، والتي فيما وراء جمهورها المحلي، تفخر بجمهور عالمي يقدر بـ426 مليون مشاهد ومستمع، والذين ينظرون إلى «بي بي سي» باعتبارها واحدة من أكبر مصادر الأخبار الموثوقة.
من جهتهم، يعتقد كثير من الأميركيين أن «بي بي سي» مؤسسة إعلامية تابعة للدولة، وهذا أمر غير صحيح. في الواقع، تشكل «بي بي سي» مزيجاً مثيراً للفضول، ذلك أنه يجري تمويلها عبر اشتراكات إجبارية للحصول على حق المشاهدة والاستماع، بجانب دعم حكومي لمنتجاتها العالمية. وتخضع «بي بي سي» لسيطرة مجلس إدارتها، في الوقت الذي يختار فيه رئيس الوزراء رئيسها. وتبدي «بي بي سي» قدراً من الاستقلال، غالباً ما يثير غضب «داونينغ ستريت».
يعود تاريخ إنشاء «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) إلى عام 1922 كشركة خاصة؛ لكنها تحولت بعد خمس سنوات إلى مؤسسة عامة، تجري إدارتها تبعاً لميثاق ملكي. واليوم تعتبر «بي بي سي» واحدة من أكبر المؤسسات الإعلامية الدولية، وتضم 2000 صحافي، و50 مكتباً إخبارياً، وموازنة تقترب من نصف مليار دولار.
وفي مسح أجرته «إبسوس موري» عام 2019، جرى توجيه سؤال إلى البريطانيين لاختيار مصدر إعلامي واحد يلجأون إليه للحصول على أخبار غير منحازة، اختار 44 في المائة منهم «بي بي سي»، بينما فضل 3 في المائة «الغارديان» ذات الميول اليسارية، و1 في المائة اختاروا مصدرين آخرين: «ديلي ميل» و«صن». وخلال أزمة وباء فيروس «كوفيد- 19»، شهدت «بي بي سي» ارتفاعاً هائلاً في أعداد جمهورها.
ومع ذلك، نجد أن هذه المؤسسة الإعلامية الكبيرة ترتعد فرائصها اليوم في مواجهة حصار من قوى مختلفة: سياسيين يمينيين يحكمون بريطانيا اليوم، ومنافسة محمومة للاستحواذ على نصيب من الجماهير من جانب قنوات البث التدفقي، مثل «نتفليكس»، وانحسار العائدات من حيث القيمة الحقيقية، إذ انخفض دخل «بي بي سي» خلال العقد الماضي بمقدار الثلث.
وفي كتاب جديد أصدره الباحثان البريطانيان بمجال الإعلام، باتريك باروايز وبيتر يورك، بعنوان «الحرب ضد (بي بي سي)»، أكدا أن رئيس الوزراء بوريس جونسون يعتبر «رئيس الوزراء الأشد عداءً لـ(بي بي سي) على الإطلاق». وأشار الباحثان إلى أنه فيما وراء الاختلافات الآيديولوجية، يحمل جونسون بداخله غضباً دفيناً تجاه «بي بي سي» بسبب تغطياتها السابقة لحياته العاطفية الباذخة.
وربما تفترض أنه حين تتعرض مؤسسة وطنية للخطر، تسارع مختلف الجهات الوطنية لمحاولة إنقاذها؛ لكن هذا لا يحدث. في الواقع نجد أنه على النقيض تماماً تضغط مجموعة من المؤسسات المنافسة، بقيادة مؤسسات تسيطر عليها عائلة مردوخ المالكة لكل من «فوكس نيوز» و«سكاي نيوز»، من أجل تقليص حجم «بي بي سي» بدرجة بالغة. وتشير هذه المؤسسات إلى أن الوضع الراهن ينطوي على منافسة غير عادلة تتدخل فيها الدولة بتقديم دعم لأحد الأطراف. كما تتهم هذه الجهات «بي بي سي» بأنها تبدي ميولاً يسارية، وبأنها تمارس مستوى جائراً من البذخ والإسراف، في ظل وجود 22000 موظف يعملون لديها بدوام كامل، بينما يقدر دخلها السنوي بـ5 مليارات دولار.
وفي محاضرة شهيرة ألقاها عام 2009، قال جيمس مردوخ، النجل الأصغر لروبرت مردوخ الذي بنى إمبراطورية إعلامية ضخمة: «مثلما توقع أوريل، فإن السماح للدولة بالتمتع باحتكار شبه كامل للمعلومات يعتبر ضمانة لسوء الاستغلال والتشويه... ومع ذلك، لدينا منظومة تتنامى في إطارها هيمنة وسائل إعلام ترعاها الدولة - (بي بي سي) على وجه الخصوص - يوماً بعد آخر».
ويشكو كثير من المشاهدين والمستمعين كبار السن الذين يهيمنون على جمهور «بي بي سي» من أن المؤسسة أذعنت أمام الثقافة السائدة التي تميل لصالح الأقليات. المؤكد أن قيادات «بي بي سي» تجاهلت بالفعل على نحو متهور حساسيات ومصالح جمهورها التقليدي، انطلاقاً من رغبتها القوية في اجتذاب الشباب والأقليات. وتجسد ذلك في إعلان «بي بي سي» عزمها إنفاق 124 مليون دولار على التنويع العرقي والجندري؛ لكن المتقاعدين من كبار السن يشكون من أن هذا ليس ما يدفعون من أجله أموال الاشتراك في خدمات «بي بي سي»، ولديهم وجهة نظر وجيهة في هذا الشأن.
بخصوص الاشتراك والتراخيص، تبدو هذه الفكرة غريبة بعض الشيء عن دول أخرى، ما يستدعي منا ضرورة شرحها. الحقيقة أن قرابة 95 في المائة من الأسر البريطانية تسدد اشتراكاً سنوياً بقيمة 204 دولارات للحصول على حق مشاهدة 10 قنوات تلفزيونية محلية تابعة لـ«بي بي سي» و10 إذاعات محلية أخرى. أما الفقراء ومن تتجاوز أعمارهم 75 عاماً، فتقرر إعفاؤهم من مصاريف الاشتراك منذ عام 1998.
جدير بالذكر أنَّ إعفاء فئة من تتجاوز أعمارهم 75 عاماً جاء بناءً على طلب حكومي، وذلك في محاولة لاستمالة أصوات الناخبين كبار السن، وتحملت وزارة الخزانة دفع تكاليف الاشتراك عنهم. إلا أنه منذ خمس سنوات، حولت الحكومة عبء هذا الإعفاء إلى «بي بي سي». ومع ارتفاع أعمار السكان، تتكبَّد المؤسسة نتيجة هذا الإعفاء قرابة 500 مليون دولار سنوياً في صورة عائدات مفقودة. وأصرَّت «بي بي سي» من جانبها على إلغاء إعفاء من تتجاوز أعمارهم 75 عاماً، ما أثار موجة غضب عارمة في أوساط كبار السن، تركت أصداء في تصريحات قيادات سياسية ومقالات صحافية.
بالطبع، هذا في مجمله شجار سخيف، ذلك أن الشخص البريطاني العادي يحظى بمتابعة واحدة من قنوات «بي بي سي» لمدة ساعتين ونصف ساعة يومياً، ويدفع مقابل ذلك ما يزيد قليلاً عن 50 سنتاً فقط. ومقابل هذا المبلغ الزهيد، يحصل على مجموعة مذهلة من البرامج الجديدة والأعمال الدرامية رفيعة المستوى والبرامج الكوميدية.
إلا أنَّ منتقدي «بي بي سي» يرون أن هذا الدور يمكن للقنوات التجارية أو قنوات البث التدفقي الاضطلاع به. وبالتالي يطالبون بأنه مقابل السماح لـ«بي بي سي» بالبقاء، فإنه عليها التخلي عن جميع منتجاتها فيما عدا دورها كمؤسسة إعلامية عامة بالمعنى الحقيقي، مع اعتمادها في التمويل على الاشتراكات أو الإعلانات.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»