الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

جنرالات إسرائيل وصناعة السلام!

«جنرالات إسرائيل الذين ذاقوا ويلات الحرب هم أكثر من يريدون السلام». الكلام لبيني غانتس، رئيس الحكومة البديل ووزير الأمن في إسرائيل.
وعلى عكس سياسيي تكتل «الليكود» الذين يقودهم اليوم بنيامين نتنياهو، والمدفوعين بالآيديولوجيا الدينية وبالإصرار على السيطرة على الأرض والحصول على السلام في الوقت ذاته، يعترف غانتس، ومعه ضباط كبار كثيرون في إسرائيل، بأن السلام الشامل سوف يكون له ثمن، وبأن الفلسطينيين هم الجيران الأقرب، ولن يكون هناك سلام شامل في الشرق الأوسط من دون تسوية معهم.
عندما يتحدث بيني غانتس عن الدور الذي يمكن أن يلعبه جنرالات الجيش الإسرائيلي في صنع السلام مع الفلسطينيين، لا يستطيع المراقب لتاريخ هذا الصراع الطويل سوى أن يتذكر التحوّل في مواقف رئيس وزراء سابق في إسرائيل، هو إسحق رابين، من جنرال ووزير للدفاع يدعو إلى «تكسير عظام الفلسطينيين» في الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر الثمانينات، إلى شريك في صنع السلام وتوقيع اتفاق أوسلو مع ياسر عرفات وشمعون بيريز، رافعاً نداء «كفى سفكاً لدماء الفلسطينيين والإسرائيليين».
اصطدم هذا التغيير في مواقف رابين المتطرفة من «كاسر عظام» إلى شريك في عملية السلام، بتطرف جماعات دينية وسياسية إسرائيلية، عدّت انقلابه على مواقفه السابقة «خيانة» لشعارات تلك الجماعات التي تقوم على العداء الكامل لحقوق الفلسطينيين. وكانت رصاصات ييغال عامير التي أودت بحياة رابين في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 أكبر ضربة لعملية السلام، التي كان رابين وشمعون بيريز من أقدر المدافعين عنها في إسرائيل.
في حديثه الشامل إلى «الشرق الأوسط» (عدد الخميس 17 ديسمبر «كانون الأول») يتحول بيني غانتس أيضاً من رئيس للأركان في الجيش الإسرائيلي قاد حربين على قطاع غزة، إلى «مدني» يعترف بأن السلام الكامل والشامل في منطقة الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق من دون تسوية مع الفلسطينيين. ليصل إلى القول: «الفلسطينيون يستحقون كياناً يعيشون فيه بشكل مستقل». حتى وضع مدينة القدس لا يعدّه غانتس من المحرمات التي لا يمكن بحثها: «سيكون فيها مكان لعاصمة فلسطينية، فهي مدينة رحبة جداً ومليئة بالمقدسات للجميع».
من وجهة نظر فلسطينية وعربية، يبدو هذا الكلام تحصيل حاصل. فالقناعة على هذا الجانب من الصراع تتفق على الدفاع عن حق الفلسطينيين وعن الظلم الذي لحق بهم. لكن أن يأتي هذا الموقف من ضابط كبير سابق في الجيش الإسرائيلي، يعرف جيداً مدى قوة جيشه وتفوقه، ومدى الضعف الفلسطيني (والعربي كذلك) في موازين المواجهة العسكرية، فإنه يعترف بواقعية أن التفوق العسكري وحده لا يكفي لتوفير الاستقرار والأمن الدائم لإسرائيل، كما لا يوفر أرضية صالحة لسلام دائم بينها وبين الفلسطينيين، جيرانها الأقرب، كما قال غانتس، ومع سائر الدول العربية.
ليست مهمة العسكريين عادةً صُنع السلام. وفي الدول العربية سار كثيرون من القادة في الطريق المعاكس، فتحوّلوا من مدنيين، لا يملكون أي خبرة في ميدان القتال، إلى «جنرالات» علّقوا على صدورهم النجوم والأوسمة، وقادوا شعوبهم وجيوشهم إلى هزائم وكوارث. في إسرائيل يصعب التشكيك في خبرة القيادات العسكرية. وبسبب هذه القدرة تدرك هذه القيادات أن البندقية وحدها لا تصنع السلام.
عندما خلع رئيس الأركان السابق بدلته العسكرية ليدخل المعترك السياسي، كان معه شريكان من كبار ضباط الجيش: غابي أشكنازي وموشيه يعلون. وأطلق على تجمعهم «حزب الجنرالات». تفكك عقدهم بعد ذلك مع موافقة غانتس على المشاركة في الحكومة مع بنيامين نتنياهو، وانضم إليها أشكنازي كوزير للخارجية، رغم انتقاداته الدائمة لنتنياهو بسبب مواقفه السياسية وتورطه في قضايا الفساد، فيما انتقل يعلون إلى المعارضة.
رغم ذلك، ظلت مواقف القادة الثلاثة وسواهم من كبار الضباط أقرب إلى ما يمكن تسميته «معسكر الاعتدال» الإسرائيلي، مقارنةً بمواقف تكتل «الليكود» وجماعات دعم المستوطنين. والمفارقة التي يندر أن تجد مثيلاً لها في دولة أخرى، أن العسكريين هم «المعتدلون» فيما أكثر القيادات السياسية تدير مشروع التطرف. غانتس ويعلون ومعهما نائب رئيس الأركان السابق يائير غولان رفضوا علناً قرار نتنياهو ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية في الصيف الماضي، قبل أن يقرر «تجميده». غانتس عارض هذا القرار وأبلغ وفداً أميركياً زار القدس في يونيو (حزيران) الماضي بأن الموعد الذي حدده نتنياهو للضم (أول يوليو «تموز») «ليس تاريخاً مقدساً». كما عارض غانتس منح «غطاء شرعي» حكومي للبؤر الاستيطانية العشوائية، انطلاقاً من قناعته بضرورة قيام كيان فلسطيني «يكون له امتداد جغرافي مناسب يجعله قابلاً للحياة المريحة من دون عراقيل». أما غولان فأكد من جهته أن الغالبية الساحقة من ضباط الجيش الإسرائيلي وعناصره ضد ضم أراضٍ واسعة في الضفة الغربية. هؤلاء القادة العسكريون يعرفون أن أي قرار بضم أراضٍ من الضفة الغربية سيكون ممكناً الدفاع عنه بالقوة إذا احتاج الأمر، إلا أنهم يدركون أيضاً الانعكاسات السلبية لهذا القرار على العلاقات مع الفلسطينيين ومع الأردن، وعلى مستقبل العلاقات مع الدول العربية التي تسعى إسرائيل إلى إقامة علاقات سلام معها.
وبسبب أهمية هذه العلاقات بالنسبة إلى إسرائيل، ينظر غانتس إليها على أنها «تحالفات سلام» بين قوى معتدلة، تتطلع إلى المستقبل وتسعى لتحسين فرص العيش لمواطنيها، ويدعو القوى المعارضة لهذا الاتجاه إلى أن تستنتج اللازم وتنضم هي أيضاً إلى مسيرة السلام.
بالطبع، نعرف جميعاً أن النداءات وحدها لا تصنع السلام، وأن الأفكار المعتدلة والساعية إلى إنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على قواعد مقبولة من الجانبين، تصطدم بأفكار متطرفة من كل منهما، تسعى إلى «الحلول القصوى»، أي إلى الحصول على كل شيء، من دون أي تنازل. ولهذا يبقى كلام غانتس مجرد شعارات سياسية، ما دام لم يقترن بالقدرة على تنفيذه، أي بحصول غانتس ومن يؤيدون مواقفه على أكثرية أصوات الناخبين الإسرائيليين.
وهنا نعود إلى دور المتطرفين في القضاء على فرص السلام، كما حصل مع رابين. فالداعون إلى «الحلول القصوى» على جانبي الصراع لا يرضون بما يعدّونها «تسويات». المتطرفون الإسرائيليون يمسكون بورقة التوسع والهيمنة على الأرض والتفوق العسكري (مع أن قادة جيشهم يسعون وراء فرص السلام). والمتطرفون من الفلسطينيين والعرب يمسكون بشعارات «الممانعة» ورفض أي حل مع «الكيان الغاصب». شعارات وظيفتها الوحيدة استغلال القضية الفلسطينية والمتاجرة بها، من دون أن تنجح في تحرير شبر واحد من أرض فلسطين.