بدأ التاريخ يعيد نفسه في منطقة القوقاز، إذ أذكى الصراع حول منطقة «ناغورنو قره باخ» المنافسة التاريخية بين إيران وتركيا، وأصبح يهدد أمن تلك المنطقة ما لم تلتزما الحكمة وضبط النفس، بعد أن أثار الرئيس التركي مخاوف إيران الأسبوع الماضي وهو يخاطب حشداً في باكو، حين استشهد بقصيدة عن القومية الأذرية، وهو أمر تسعى إيران جاهدة إلى كبته داخل أراضيها.
فعلى مدى مئات السنين، احتدم الصراع التركي - الفارسي، ثم اشتدت وطأته بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، حين خاضا 10 حروب طاحنة، وهما يسعيان إلى توسعة نطاق مملكتيهما.
ويعتقد المؤرخون أن تحول إيران إلى المذهب الشيعي ربما جاء نتيجة لذلك الصراع، فإلى مطلع القرن السادس عشر، كان المذهب السني هو السائد في فارس والمناطق المجاورة لها، بل كانت إيران مركزاً للفقه السني يجتذب العلماء من أنحاء العالم الإسلامي كافة، بما في ذلك تركيا. لكن في بدايات ذلك القرن، فرض الشاه إسماعيل، مؤسس الدولة الصفوية، ذلك التحول المذهبي بالقوة، وشن حملة دموية لتحقيقه. وكان أحد أسباب ذلك أن الدولة العثمانية كانت تتوسع في المنطقة، وكان حمل السلطان للقب الخلافة عاملاً مهماً في نجاح وسرعة ذلك التوسع. فباسم الخلافة، حظي السلاطين العثمانيون بدعم وولاء كثير من المسلمين السنة في أنحاء العالم الإسلامي، بما في ذلك إيران. ولذا سعى الشاه إسماعيل إلى قطع تلك العلاقة التي كانت قائمة بين الشعوب التي يحكمها والخليفة العثماني. ويؤكد ذلك حرصه على سرعة التحول المذهبي والعنف الذي استخدمه لتحقيقه، إذ شعر بالحاجة إلى خلق جبهة قوية ضد العثمانيين تعتمد على الخلاف المذهبي.
وكانت منطقة القوقاز إحدى مناطق الصراع الفارسي - التركي. ومع أن الدولة العثمانية انتصرت في معظم الحروب التي خاضتها مع الدولة الصفوية، فإن الأخيرة تمكنت من مد نفوذها إلى معظم مناطق أذربيجان التاريخية، على الرغم من أن الأذريين أتراك عرقياً ولغوياً، وكان يمكن أن يصطفوا إلى جانب العثمانيين، لولا أن الصفويين قاموا بفرض التحول المذهبي في أذربيجان لإضعاف تعاطفها معهم وربطها ببقية مناطق الدولة الصفوية.
ومع أن الحروب الدينية لم يعد لها سوق هذه الأيام، فإن إيران ما زالت تطمع في استخدام الورقة المذهبية لتعزيز سيطرتها على ذلك الجزء من أذربيجان التاريخية الواقع داخل إيران، بعد أن فشلت في تحقيق ذلك مع جمهورية أذربيجان. وبالمقابل، فإن تركيا تستمد قوتها من القومية التركية وتسعى إلى تأكيد روابطها العرقية مع الأذريين وغيرهم من الشعوب التركية عرقياً.
تتحفظ إيران كثيراً في تحديد حجم الأقليات داخل حدودها، ولكن من المعروف أن الأذريين هم أكبر الأقليات غير الفارسية، نحو 25 في المائة من السكان، ويبلغ تعدادهم نحو 20 مليوناً، أي ضعف سكان جمهورية أذربيجان المستقلة، وما زال الأذريون يتكلمون لغة مشتركة، تركية الجذور، على جانبي الحدود.
ولا شك أن هذا المزيج العرقي الديني اللغوي قابل للاشتعال، خاصة بعد أن أخذت تركيا صف جمهورية أذربيجان، في حين دعمت إيران الجانب الأرمني في القتال حول منطقة «ناغورنو قره باخ».
ومما أجّج الخلافَ قراءةُ إردوغان، خلال كلمة ألقاها في 10 ديسمبر (كانون الأول) في حشد بمدينة باكو، لقصيدة للشاعر الأذري بختيار وهب زاده تبكي على تمزيق أراضي أذربيجان، وتقسيمها بين جمهورية مستقلة ومقاطعة تابعة لإيران، ويقول الشاعر في البيت الذي اقتبسه إردوغان إن الأذريين لن ينسوا أبداً أنهم شعب واحد تم فصل شطريه بالقوة.
اعتبرت طهران مشاركة إردوغان في مهرجان حماسي نُظّم للاحتفال بانتصار أذربيجان، بمساعدة تركيا، واقتباسه من تلك القصيدة، تشجيعاً لمطالبات الأذريين في إيران بالاستقلال وتعزيز هويتهم الثقافية واللغوية، وقامت باستدعاء السفير التركي في طهران وشنت حملة إعلامية لا هوادة فيها ضد إردوغان، في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي. فخصصت إحدى الصحف صفحة كاملة تحت عنوان «توهمات الخليفة العثماني»، مع رسم كاريكاتوري لإردوغان على هيئة «دون كيخوته» وممتطياً حصاناً من الخشب. وتكررت عبارات «توهمات الخليفة» في عدد من الصحف، ما يوحي بحملة موجهة. وانتقد عدد من كبار المسؤولين الإيرانيين، بما في ذلك وزير الخارجية جواد ظريف، قراءة إردوغان للقصيدة، مؤكدين سيادة إيران على المناطق الأذرية. وأطلق ذلك الحراك الرسمي العنان لحملة تراشق شرسة في وسائط التواصل الاجتماعي.
ويتضح من ردة الفعل الإيرانية لهذا الاستفزاز عدة أمور؛ أولاً، على الرغم من التوافق أو التعايش الإيراني - التركي في سوريا وغيرها، فإن لدى كل منهما شكوكاً عميقة حول نوايا الطرف الآخر، سرعان ما ظهرت للعلن بعد استفزاز بسيط نسبياً. ثانياً، ربما شحذت الحرب حول ناغورنو قره باخ شهية تركيا للتوسع شرقاً، لأنها ترى أنها كسبت تلك الحرب. ثالثاً، أظهرت لهجة الاحتجاج التي ردت بها إيران، وسرعة تحركها، وإعطاؤها أولوية من قبل كبار المسؤولين، القلق الذي تشعر به إيران تجاه الأقليات العرقية واللغوية والدينية فيها، خاصة الأذريين أكبر تلك الأقليات عدداً. وطالما سعى أذريو إيران إلى تعزيز هويتهم المستقلة ثقافياً وعرقياً وتاريخياً عن بلاد فارس، كما يسعون إلى توحيد مناطقهم، وهو ما أشار إليه إردوغان في استشهاده بقصيدة الشاعر الأذري.
وللأذريين في إيران نشاط حركي مستمر، ولكن السلطات الإيرانية تضيق الخناق عليهم، وتعتقل النشطاء منهم سواء كانوا في المجال السياسي أو الثقافي. وقد ازدادت حدة الاحتجاجات خلال الأشهر القليلة الماضية، بعد بدء الاشتباكات بين جمهورية أذربيجان وأرمينيا، وامتدت من المناطق الأذرية مثل تبريز، وأورميا، وزنجان، وأردبيل، وناقاده، وميانه، وغيرها إلى العاصمة طهران، وقامت السلطات الإيرانية باعتقال عشرات من النشطاء الأذريين. وتتولى المنظمات الدولية مثل «أمنستي» متابعة حالاتهم، بالإضافة إلى المنظمات المتخصصة بحقوق الأذريين مثل «منظمة حقوق الشعب الأذري في إيران» ومقرها لندن.
بعد هدوء جبهات القتال في قره باخ، استمر التراشق الإعلامي الذي أذكاه إردوغان، لكن ذلك قد يتطور إلى ما هو أخطر. ذلك أن تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلدين قد أدى إلى احتجاجات واسعة، قد تؤثر على الانتخابات المقبلة واستقرار الحكومتين، حيث من المقرر أن تعقد إيران انتخاباتها الرئاسية في يونيو (حزيران) 2021. أما تركيا فمع أن الانتخابات مجدولة لعام 2023. إلا أن هناك توقعات بتنظيمها مبكراً العام المقبل.
وقد اكتشفت إيران وتركيا أن المغامرات الخارجية وسيلة ناجحة، ولو مؤقتة، لصرف الأنظار عن تدهور الاقتصاد والكبت السياسي، ورفع أسهم النظام. وربما تدفع حرب قره باخ تركيا إلى مزيد من التوسع شرقاً، في حين أنها أثارت مخاوف إيران، وربما دفعتها إلى القيام بعمل استباقي ضد تركيا.
* الأمين العام المساعد للشؤون السياسية وشؤون المفاوضات
في مجلس التعاون الخليجي