أندرياس كلوث
TT

لقاحات الوباء تفرض معضلة أخلاقية عالمياً

لقد مرَّت أسابيع قليلة فقط قبل تجهيز المعدات والاستعداد لحقن اللقاحات. وإن كان العام الماضي هو الذي منح فيروس كورونا المستجد اسمه المعروف «كوفيد - 19»، وتميز عام 2020 الحالي بالكمامات والملابس الواقية ومسحات الاختبار الطبية، فإنَّ عام 2021 المقبل سوف يتسم بعام قارورة المصل المضاد.
ونظراً لأنه جائحة، فإنَّ هذا النوع من التطورات المرحب بها يفرض كافة المشكلات المعتادة للاختلافات العالمية المعهودة في الثروة، والسلطة، والإنصاف، وكانت البلدان الغنية قد تقدمت بالفعل بطلبات شراء اللقاح الجديد. وليس بمقدور البلدان الفقيرة سوى الأمل في ألا يتم استبعادها. فما الذي ينبغي القيام به؟
لا يقتصر ذلك التساؤل على حالة الجدل القائمة بين القوميين والتعدديين الذين يحاولون دوماً استقطاب العديد من البلدان الغربية على مستوى الحكومات والشعوب. بل إنه يمثل معضلة أخلاقية أزلية. وفي حوار إغريقي شهير ذكره الفيلسوف القديم أفلاطون، زعمت شخصية أثينية ذكورية النزعة تُدعى «كاليكليس» بأن العدالة ليست إلا قانون الطبيعة المجرد - مما يعني، البقاء للأقوى. وعبر سياق الجائحة الراهنة: لماذا لا يبتاع الساسة في البلدان الثرية كل اللقاحات المتاحة، ويوفرون من خلالها مزية «المناعة الجماعية» لناخبيهم أولاً؟
يقول الفيلسوف سقراط، في تلك المحادثة المذكورة، إن العدالة تستلزم التعاون، والرؤية التي تشتمل على القوي والضعيف، على حد سواء. ومعنى ذلك في عالمنا المعاصر: سوف يكون العالم أفضل حالاً مع مشاركة اللقاحات بين الجميع، نظراً لأن البقاء على قيد الحياة لا ينبغي أن يستند إلى المكان الذي تعيش فيه راهناً.
بيد أن هذه القضية الأخلاقية المجردة ليست هي الحالة الوحيدة المعنية بمسألة التعاون والمشاركة. إذ يتضح أن المشاركة المتعددة للقاحات المضادة للفيروس، من شأنها أيضاً إنقاذ العديد من الأرواح الإضافية.
صاغ مختبر في جامعة «نورث إيسترن» في مدينة بوسطن نموذجين لسيناريوهين للواقع المغاير لما كان سوف يحدث، إن كان لقاح فيروس كورونا المستجد متاحاً للجميع في مارس (آذار) من العام الحالي. وفي أحدهما، تبتاع البلدان الثرية أول 2 مليار جرعة من اللقاح، في حين يجري تخصيص مليار جرعة فقط بين كافة البلدان الأخرى. وفي السيناريو الثاني، يتم توزيع 3 مليارات جرعة من اللقاح منذ البداية على كافة البلدان حول العالم بما يتناسب مع عدد السكان.
في الحالة الأولى «غير التعاونية»، كان اللقاح سوف يمنع نسبة 33 في المائة فقط من الوفيات العالمية الناجمة عن الفيروس حتى الأول من سبتمبر (أيلول). وفي السيناريو الثاني «التعاوني»، كان اللقاح سوف يمنع 61 في المائة من الوفيات العالمية، حتى في البلدان التي كان من الممكن أن يصل إليها اللقاح في أي من السيناريوهين المذكورين.
لذا، فإنَّ الوضع يشبه إلى حد ما معضلة السجين الشهيرة في نظرية الألعاب. فإذا ما تعاونت كافة البلدان، يمكن للعالم حينئذ تحقيق النتيجة المثلى، ويتمكن من هزيمة الوباء قريباً، وبصورة حاسمة. وإذا لم تتعاون البلدان، سوف يستمر الوباء في الانتشار مع ارتفاع معدلات الوفيات على الصعيد العالمي. وتكمن المعضلة في أن كل دولة منفردة لديها حافز «الغش»، بالاستناد إلى الآخرين في التعاون والمشاركة مع محاولة اقتناص كافة جرعات اللقاح الممكنة هنالك. ولكن هذا التصرف يترك البلدان الأخرى أسوأ حالاً ما لم يتعاون أحد على الإطلاق.
وفي نظرية الألعاب، يمكن تعديل النتائج المختلفة عن طريق تغيير المعاملات الرياضية المستخدمة. وهذا في رأيي ما تحاول مؤسسة «أوراسيا غروب» - المؤسسة الاستشارية المعنية بدراسات المخاطر الجيوسياسية - أن تفعله في الآونة الراهنة من خلال تقرير جديد صادر بتمويل من مؤسسة «بيل وميليندا غيتس» للأعمال الخيرية. إذ تعتبر المؤسسة غير الهادفة للربح هي الراعي الرئيسي لبرنامج «أكت أكسيليريتور»، وهو برنامج تعاوني عالمي بين الحكومات والشركات والعلماء والجهات المانحة، يهدف لتسريع تطوير وإنتاج والوصول العادل إلى اختبارات وعلاجات ولقاحات فيروس كورونا المستجد إلى البلدان النامية.
وتكمن الفكرة في أن البلدان الثرية تدخل في وعاء عام يمول التوزيع المنصف في البلدان الفقيرة. غير أن البلدان المانحة قد وفرت حتى الآن مبلغاً، وقدره 1.5 مليار دولار فقط. وهناك حاجة ماسة إلى 28.2 مليار دولار أخرى من أجل تقديم الجرعات، وغير ذلك من الأدوات عند توفرها. كيف يمكننا أن نحمل كافة الأطراف المعنية في هذه المعضلة على التعاون؟
يتم ذلك من خلال إظهار أن أي أموال يجري دفعها سوف تعود عليهم بالعوائد الكبيرة، من دون أي جوانب سلبية، تماماً كما يشير تقرير مؤسسة «أوراسيا غروب» المذكور آنفاً. وكانت المؤسسة قد قامت بتحليل التكاليف الجيوسياسية، والاقتصادية التي تتحملها البلدان الثرية في حالة تفشي الوباء داخل البلدان الفقيرة. ويشتمل هذا على العوامل الواضحة: أي التأثير المباشر على الاقتصاد، اليابان إثر إلغاء دورة الألعاب الأولمبية الصيفية، على سبيل المثال. والعوامل غير المباشرة، مثالاً بالآثار التي يعاني منها الطلب الدولي على الصادرات الألمانية أو غاز التكسير الهيدروليكي الأميركي.
بصفة عامة، خلصت مؤسسة «أوراسيا غروب» إلى أن الفائدة الاقتصادية للسيطرة على وباء «كورونا المستجد» في كل مكان سوف تكون 153 مليار دولار في العام المقبل بالنسبة إلى البلدان العشر المانحة الكبرى، أو 466 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة. وهذا المبلغ يساوي أكثر من عشر أضعاف المبلغ المطلوب في برنامج «أكت أكسيليريتور». علاوة على ما تقدم، عند مقارنة الوعاء المالي في برنامج «أكت أكسيليريتور» مع برامج التحفيز المالية المحلية الهائلة التي مررتها البلدان الثرية، فإنَّ المبلغ المطلوب للبرنامج العالمي تبدو تافهة للغاية.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»