د. ياسر عبد العزيز
TT

الرابحون والخاسرون من تبدل السياسات

كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرتشل هو من قال: «ليست هناك صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة»؛ وهو في قوله هذا لم يكن يكشف سراً أو يجترح جديداً بقدر ما كان يعبر عن حقيقة راسخة أثبتتها وقائع التاريخ السياسي العالمي.
يجسد تاريخ العلاقات السياسية الدولية منذ بدء التدوين حالة ممتدة في الزمن بدت عصية على أي تغيير؛ ومفادها أن سياسات العداوة والصداقة بين الدول تتبدل تبعاً لظروف تمليها السياقات، وتؤطرها المحددات والقيود، وفقاً لتشخيص القوى السياسية الفاعلة لمصالحها. إذ تحسب الدول الرشيدة عادة عوائد سياساتها مقارنة بالتكاليف، وعندما تظهر منفعة مناسبة لقرار أو مقاربة أو سياسة، فإنها تمضي قدماً لحصد العائد طالما بدا مردوده أعظم من تكلفته.
ولأن الإعلام، وفق ما استقرت عليه الأكاديميات وأثبتته التجارب، ليس مخلوقاً لذاته، بل هو إطار يتبع السياسة، ويلعب في أحد أهم أوجهه دوراً مؤثراً ضمن عناصر القوة الشاملة للدول والكيانات الأقل من الدولة، فإنه، على الأرجح، يبقى متناغماً في أدائه ومردوده مع الإطار السياسي الذي ينشط فيه. ورغم أنه في بعض الحالات لا يظهر هذا التناغم بوضوح، فإن تلك الحالات تندرج في باب الاستثناء الذي يرسخ القاعدة.
هل يعني هذا الكلام أن الإعلام ليس سوى أداة دعاية للدول والكيانات السياسية الفاعلة وأصحاب رؤوس الأموال من مالكي وسائله؟ وهل يأخذنا إلى استخلاص مفاده أنه لا يوجد كيان إعلامي يحافظ على درجة مناسبة من الاستقلالية المهنية، وأن الموضوعية هدف لا يمكن السعي إلى تحقيقه، وأن الصحافة ليست سوى نشرات تتحدث بلسان مالكيها؟
من جانبي، أجيب بوضوح: لا.
فعلى مدى أكثر من خمسين عاماً من البحث، والتفاعل المهني، والتنظير الأكاديمي، ونضالات الصحافيين، وجهود بعض وسائل الإعلام النافذة والمرموقة، توافرت لدينا تجارب وأدلة وآليات تنظيمية يمكن من خلالها تحقيق هدفين بدا لكثيرين أنهما متناقضان: أولهما هو توافر درجة معقولة من الاتساق بين الأداء الصحافي ومصالح المالكين (Owner Concerns) و/ أو مصالح الدولة (State Concerns) التي تعمل فيها وسيلة الإعلام. وثانيهما هو توافر درجة مناسبة من الالتزام بالقواعد والمعايير المهنية (Standards Concerns).
لقد انخرطت الولايات المتحدة في عداء سافر مع اليابان، على سبيل المثال، وصل في ذروته إلى ضربها بالقنابل الذرية. ثم تصالحت الدولتان، ومضت العلاقات بينهما لاحقاً إلى حد التحالف. وهو الأمر الذي حدث بدرجات متباينة بين ألمانيا وفرنسا، وبين تلك الأخيرة وبريطانيا، وبين الكويت والعراق، وبين ذلك الأخير وإيران، وبين مصر وبعض شقيقاتها العربيات، وغير ذلك من أمثلة أخرى كثيرة لا تُعد ولا تُحصى.
لم يكن أداء المنظومات الإعلامية التابعة لتلك الدول واحداً بطبيعة الحال. ورغم أن هذا الأداء حفل بتباينات كثيرة وواسعة، فيمكن القول إنه انتظم ضمن إطارين رئيسيين: أولهما تجسد في حالة من التماهي الإعلامي الكامل مع موقف الدولة أو المالكين، تحولت من خلالها وسائل الإعلام إلى أدوات دعاية سوداء، تردد خطاب الدولة وتمعن في العداء والاستهداف، عبر ممارسات لا تقيم أي وزن للاعتبارات المهنية. وثانيهما انتظم ضمن أطر معتدلة استطاعت الموازنة بين اعتبارات الدولة والمالكين من جانب، والاعتبارات المهنية من جانب آخر.
ولتوضيح الأمور، يمكننا أن نراجع أداء وسائل الإعلام الغربية تجاه روسيا الاتحادية والصين، مثلاً، في مرحلة العداء والتناقض بين هاتين الدولتين والمصالح الغربية. وهنا نكتشف أن بعض تلك الوسائل عمد إلى الكذب، والتلفيق، والنزع من السياق، وتشويه الحقائق، واختلاق الوقائع، وشيطنة قادة «العدو»، والاختيار المغرض للقصص، في مجاراته لمواقف المالكين، بينما حافظت وسائل إعلام أخرى على قدر مناسب من الأداء المهني والالتزام بالمعايير.
لقد أمكن لتلك الوسائل الأخيرة المحافظة على النزعة المهنية في أدائها عندما فصلت بين الآراء والأخبار، والتزمت الدقة، وتفادت الابتذال، ما أبقاها مصدر اعتماد معتبراً لجمهورها، وحفظ لها مكانتها واحترامها، وجنّبها تكاليف الانتقال الحاد والمرهق وغير المُسوغ بين حال وحال. وفي المقابل، غرقت وسائل أخرى - بعضها ذو تاريخ عريق للأسف - في ممارسات غير مهنية، وبدت في بعض الأحيان جزءاً من الصراعات ومؤجّجة لها.
الرابحون إعلامياً في حالات تبدّل السياسات أنجزوا موازنة دقيقة وصعبة، وساروا في حقول ألغام، وحافظوا على مكانتهم، وعظّموا عوائد الاستثمار فيهم، وظلوا قادرين على خدمة الإطار السياسي الذي ينشطون فيه.