ماكس هاستينغز
- رئيس تحرير صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية السابق- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
TT

«العلاقة الخاصة» بين أميركا وبريطانيا تواجه اختباراً

تثير الفترات الانتقالية داخل الولايات المتحدة من رئاسة إلى أخرى، حتى تلك التي اتسمت بقدر أقل من التوتر عن هذه، التوجس في صفوف حلفاء واشنطن أكثر عن أعدائها. وينطبق هذا القول على نحو خاص على البريطانيين.
اليوم، تبذل الحكومة البريطانية جهوداً كبيرة كي تُظهر للرئيس القادم جو بايدن أن المملكة المتحدة تبقى حليفاً مفيداً لواشنطن. الشهر الماضي، وافق رئيس الوزراء بوريس جونسون، على صفقة تمويل تكميلي سخية على نحو لافت لصالح القوات المسلحة البريطانية، بقيمة 22 مليار دولار أميركي على مدار أربع سنوات.
والواضح أنه يأمل في أن ينظر القائد العام الجديد للولايات المتحدة إلى هذا القرار بوصفه التزاماً بالحفاظ على القدرات العسكرية للمملكة المتحدة، والتي لطالما شكّلت حجر زاوية في العلاقات عبر الأطلسية.
من جانبهم، يبذل مسؤولون بريطانيون جهوداً كبيرة للتنبؤ بطبيعة المسار المحتمل الذي ستتخذه إدارة بايدن. وفي حديث دار بيننا، أخبرني سفير بريطاني سابق في واشنطن أن: «السؤال دائماً ما يكون: هل نعرف الأشخاص الذين سيحيطون بالرئيس؟ هل نروق لهم؟».
ويدرك جونسون ومساعدوه أن بايدن ليس لديه ميل مسبق لاستساغة شخصية رئيس الوزراء البريطاني -مثلما فعل الرئيس دونالد ترمب الذي رأى في جونسون صورة مستنسخة مصغّرة منه ورفيقاً في مواجهة الصين.
وفي أعقاب «بريكست»، ستحتاج بريطانيا على نحو عاجل إلى إبرام اتفاق تجاري جديد مع واشنطن، كي يحل محل الترتيبات المقررة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومع هذا، نجد في المقابل أن إدارة بايدن لن تكون في عجلة للتفاوض، خصوصاً حتى يتضح ما إذا كان «اتفاق الجمعة العظيمة» للسلام مع الآيرلنديين والذي يبدو غير مستقر، سيتعرض لتهديد جراء السلوك المتعجرف الذي تنتهجه المملكة المتحدة، حيال قضية التجارة عبر الحدودية، الأمر الذي يخشى البعض منّا بالفعل حدوثه.
ومع دخول الربيع، يكاد يكون في حكم المؤكد أن رئيس الوزراء البريطاني سيزور الرئيس الأميركي الجديد. وستجري إزالة الغبار عن العبارات القديمة المكررة حول «العلاقة الخاصة» بين البلدين لتعاود الظهور في عناوين وسائل الإعلام البريطانية. أما داخل واشنطن، فإن مثل هذه الخيالات تبدو مسلية بعض الشيء. ولن يلحظ سوى القليل من الأميركيين وجود رئيس الوزراء البريطاني في عاصمتهم.
في الواقع يتعيَّن على الحكومة البريطانية الحالية، مثلما كان الحال مع سابقاتها، تعلم درس قاسٍ مفاده أن الرؤساء الأميركيين لا يقضون كثيراً من الوقت يفكرون في أمرها. من جهته، كتب هنري كيسنجر بذكاء عن عيوب رؤساء الوزراء البريطانيين في أثناء لقائهم الرؤساء الأميركيين على النحو التالي متحدثاً عن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق: «التقى هارولد ويلسون الرئيس نيكسون، وأظهر قدراً من حسن النية جعله أشبه برب أسرة عتيقة ولّت أيام مجدها».
وكتب كيسنجر بنبرة مثيرة للشفقة عن التوق البريطاني نحو ادّعاء وجود «علاقة خاصة» مع الولايات المتحدة، وقال إنه يتعين على الولايات المتحدة الاستمتاع بهذا الأمر، «لأننا لا نرى في هذا العالم فائضاً في الأصدقاء، وبالتالي ليس من مصلحتنا تثبيط أولئك الذين يشعرون بأنه تربطهم بنا صداقة خاصة». وحذر كيسنجر من أنه لا ينبغي للولايات المتحدة أبداً جرح الحساسيات البريطانية، وإنما يتعيَّن عليها ببساطة السعي وراء بناء «علاقات خاصة» مع جميع حلفائها.
المؤكد أن ثمة الكثير من القيم والمصالح المشتركة بين بريطانيا والولايات المتحدة، لكن القادة البريطانيين المتعاقبين يحطّون من أنفسهم عندما يروّجون لأوهام حول أهمية بلادهم. وعلى الرغم من أنني لست على صلة وثيقة بدوائر السلطة، فقد تعاملت مع ستة رؤساء وزراء، ولطالما حثثتهم جميعاً -باستثناء مارغريت تاتشر، لأنني لم أكن لأجرؤ على ذلك- عبثاً على تبني توجهات واقعية تجاه العلاقات الأنغلو - أميركية.
على سبيل المثال، قبل أيام قليلة من دخول تيريزا ماي «10 داونينغ ستريت» في يوليو (تموز) 2016، كنت بالصدفة حاضراً في حفل عشاء كانت هي بين ضيوفه، وتجاذبنا أطراف الحديث في الغالب حول موضوعات عادية، ولكن في نهاية المساء، قلت لها سأتجرأ بوصفي مؤرخاً على إسداء نصيحة صغيرة إليكِ.
وقلت لها: عندما تتولين منصب رئيسة الوزراء وتزورين واشنطن سوف تتلقين جميع صور الترحيب والمجاملات التي يبرع فيها الأميركيون، لكن لا ينبغي أن تخدعي نفسك عبر الاعتقاد بأن العلاقات بين البلدين تحمل جانباً عاطفياً. في الواقع، تخضع العلاقات بين البلدين للمعايير التي تحكم السياسة الخارجية لأي بلد في العالم: المصالح.
ولم تقل ماي شيئاً، ولم أنتظر منها أن تفعل ذلك. إلا أنه بعد تولي ترمب الرئاسة بفترة قصيرة، زارت ماي واشنطن وعرضت عليه زيارة بريطانيا -في دعوة غير مسبوقة في بداية تولي إدارة جديدة السلطة.
ولأسباب مختلفة، جرى إرجاء الزيارة حتى يوليو 2019. وعندما زار الرئيس أخيراً بريطانيا، استعرض البريطانيون براعة القوات الجوية المعنية بمكافحة الإرهاب، إلى جانب استعراض موكب العائلة المالكة.
ورغم أن ترمب لم يعامل بريطانيا على نحو أسوأ عن معاملته لأي بلد آخر، فإنه في الوقت ذاته لم يولِها معاملة مميزة أو تفضيلية. جدير بالذكر أنه قُبيل استقالة الجنرال جيمس ماتيس من منصب وزير الدفاع في فبراير (شباط) عام 2019، تحدث على نحو خاص مع ضابط بريطاني رفيع المستوى وحذره قائلاً: «مهما بلغ عدد الزيارات الرسمية التي ترتّبونها، هذا الرئيس لا يقتنع بفكرة الحلفاء».
المؤكد أنه خلال فترة ما بعد الحرب، عمل الجانبان على نحو خدم السلام العالمي، لكن الحكومات البريطانية ستستمتع بأوقات أفضل، وستعرّض نفسها لمواقف مهينة أقل إذا ما اعترفت بالمكانة المتواضعة نسبياً لها في عالم اليوم، إلى جانب حقيقة أن الكثير من الدول الأخرى تتنافس للفوز برضا واشنطن.
في الواقع، لطالما تعاونت المؤسستان العسكريتان الأميركية والبريطانية على نحو وثيق، وأظهرتا احتراماً متبادلاً كل منهما تجاه الأخرى. وقد تناول الكثيرُ من الكتابات المشاحنات التي اشتعلت بين الجنرالات خلال الحرب العالمية الثانية، لدرجة أنه في بعض الأحيان ينسى الكثيرون إلى أي مدى كان التعاون على مستوى العمليات رائعاً. أما الاستخبارات فهو الحقل الأكبر الذي تقدم خلاله بريطانيا الكثير للولايات المتحدة، وهو تقليد مستمر دونما توقف منذ حقبة الحرب العالمية الثانية. وتبدي وكالة الأمن الوطني الأميركي تقديراً بالغاً تجاه مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية، التي تشكل مركزاً سيبرانياً عالمي الطراز.
جدير بالذكر أن ترمب هدد بوقف التعاون الاستخباراتي إذا لم تتراجع بريطانيا عن تعاقدها مع شركة «هواوي» الصينية، وبالفعل أذعنت حكومة رئيس الوزراء بوريس جونسون. ويعتقد خبراء أمنيون تابعون للحكومة البريطانية أن الموقف الأميركي كان صائباً في هذا الخصوص.
وحدث الأمر ذاته من قبل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1956، عندما أجبر غضب الرئيس دوايت دي. أيزنهاور جراء الغزو الأنغلو - فرنسي لمصر، بعد تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس، البلدين على الانسحاب على نحو مهين. ولا يزال البريطانيون يشيرون إلى الأزمة بوصفها كانت خطأ فادحاً أثار حفيظة الأميركيين بسبب تشتيته أنظار العالم بعيداً عن القمع السوفياتي الوحشي ضد انتفاضة بودابست في ذات التوقيت تقريباً.
مع ذلك، كان التضامن الأنغلو- أميركي خلال عقود الحرب الباردة عاملاً حاسماً في توحيد صفوف حلف شمال الأطلسي (ناتو) وكبح جماح الاتحاد السوفياتي.