عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«شابو» للعلم والعلماء

أخيراً، وعلى عكس ما يتوقع قارئ الصحف (التي عادة لا تنشر الأخبار الطيبة)، هناك أخبار طيبة عن أول مصل تسمح اللجنة القومية لترخيص الأدوية باستخدامه في بريطانيا «ب.ن.ت.162 - ب.2» (BNT162b2) من إنتاج شركة «فايزر»، وتعاطيه على جرعتين بينهما 21 يوماً، تكلفتهما 40 دولاراً للشخص (التطعيم مجاني) تتحملها وزارة الصحة التي تعاقدت مع الشركة على ما يكفي لتطعيم 20 مليون شخص في خلال عام (بتكلفة 800 مليون دولار).
التطعيم يبدأ بعد غد في جدول بالأولية: كبار السن فوق الثمانين من العمر، والمرضى في المستشفيات؛ السبب طبيعة المصل نفسه، وطريقة تناوله، وقلة الجرعات. فلم يثبت أنه يقي من نقل العدوى بين الأفراد (حيث لم يكن هناك وقت لتجربته)، لكنه يقلل من الآثار الخطيرة للمرض في الجسم، ويساعد أعضاء الجسم على مقاومته، والاستمرار في الوظائف الحيوية، وبالتالي الأولوية هي تطعيم من يهدد المرض حياتهم، ويسبب أضراراً في الأجهزة الأساسية، كالتنفس والدورة الدموية وبقية حيوية الجسم، في حالة الإصابة بالعدوى. السبب الآخر أن حفظ هذا المصل ونقله يتطلب درجة حرارة 70 مئوية تحت الصفر، مما يقصر مراكز الحقن على المستشفيات التي لديها تكنولوجيا تخزين الجرعات.
كما تقوم لجنة ترخيص الأدوية بدراسة نتائج تجارب مصلين آخرين تعاقدت الحكومة على الحصول على 105 ملايين جرعة منهما (المصلان مجتمعين)، كما دفعت 89 مليون دولار لمعامل البحث العلمي في جامعة أكسفورد التي تستخدمها شركة «أسترازينيكا» لإنتاج الأدوية في أثناء مرحلة التجارب، بينما هناك أربعة أمصال إضافية وضعت وزارة الصحة «العربون» المقدم للتعاقد مع الشركات المنتجة في حالة نجاح التجارب؛ أي سبعة أمصال تكفي لكل سكان المملكة المتحدة لعدة سنوات.
اليوم، هناك 12 مصلاً جاهزة للاستخدام؛ أربعة منها بالفعل في الاستخدام (في الصين وروسيا)، والخامس الذي وصل إلى المملكة المتحدة، والباقي بانتظار الانتهاء من التجارب، واستخراج شهادات الصلاحية من الجهات المعنية، ومن المنتظر أن تكون كلها في مرحلة الاستخدام قبل منتصف العام المقبل (حسب الناشيونال جيوغرافيك، عدد ديسمبر/ كانون الأول 2020).
وعلى المستوى العالمي، يوجد 150 مصلاً تجرى التجارب عليها الآن للوقاية من فيروس «كورونا»، ومن آثار المرض (كوفيد - 19)، بينما تنسق منظمة الصحة العالمية مع منتجي الأدوية لتوفير ملياري جرعة من الأمصال مع نهاية العام المقبل 2021.
إنتاج الأمصال التي بدأ استخدامها جاء في زمن قياسي. فعادة ما يستغرق الأطباء وعلماء الأمصال والباحثون بين عشرة وخمسة عشر عاماً لإنتاج مصل. المصل الذي حطم الرقم القياسي كان للوقاية من الأورليونية (عدوى التهاب الغدة النكفية)، واستغرق أربع سنوات، في ستينات القرن الماضي. الفارق اليوم هو التقدم العلمي المذهل في ستة عقود في تكنولوجيا توظيف الإلكترونيات الفيزيائية في مساعدة علوم البيولوجيا والوقاية وتحليل الأحماض النووية (أمصال «كوفيد - 19» تعتمد على استخلاص أجزاء من التركيبة الجينية للفيروس وتقليدها لتنبيه جهاز مناعة الجسم). هذه العلاقة في تقدم وتطور علمي الفيزياء والإلكترونيات - مثلاً - مكنت العلماء من توظيف المعلومات ونتائج البحوث لإنتاج أمصال الوقاية من إنفلونزا الخنازير والسار (وهما من مجموعة كورونا) لتطوير الأمصال الجديدة المضادة لـ«كوفيد - 19».
تطورات يجب أن تدفع الإنسانية لتقول «شابو»؛ أي ترفع القبعات تحية للعلم والأطباء والعلماء، وهم عادة جنود مجهولون.
فبجانب الأخبار المشجعة لإمكانية التغلب على أكبر خطر يواجه الإنسانية في مائة عام، هناك أخبار أخرى عن انتصار العلم.
باحثان (درجة دكتوراه العلوم في عمل المخ الإنساني ببرامج الكومبيوتر) في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا توصلا إلى تصميم تطبيق (أبليكيشن) جديد لتأليف الأحلام، وإدخالها في عقل الشخص النائم عن طريق همسات وموسيقى في مرحلة الـ(Hypnagogia) بين الحلم واليقظة، وعقل الإنسان غير واعٍ أو قادر على التحكم في الجسم أو الإرادة، وبالتالي يشاهد الإيحاء وكأنه حلمه الخاص (حسب مجلة العلوم البريطانية، عدد ديسمبر/ كانون الأول 2020). والاختراع بالطبع يختصر سنوات يستغرقها أطباء الأمراض العقلية والمحللون النفسيون في تشخيص الأمراض النفسية، بالاهتداء بتفسير الأحلام في التحليل النفسي (الكتاب الصادر بالألمانية في 1899)، والذهاب أبعد من سيغموند فرويد (1856 - 1939) الذي قصر تفسير الأحلام على التشخيص لتوظيف الحلم المصمم خصيصاً في علاج أمراض عقلية كالعصاب والذهان، بلا استخدام عقاقير تؤدي للإدمان.
وفي الأسبوع نفسه، تمكنت مؤسسة «ديبمايند» (DeepMind) من تطوير برنامج إلكتروني (ألفا – فولد) لرسم صورة بدقة تبلغ مقاس ذرة واحدة لجزيء البروتين، وهو أساس الحياة على كوكب الأرض، وتركيبة أصغر وحدة بروتين من المكونات الأساسية لأي خلية أو فيروس أو حتى جين وراثي، وهي المعضلة التي حيرت العلماء لنصف قرن (حسب موقع «ديبمايند-دوت-كوم»، 30 نوفمبر/ تشرين الثاني). الفائدة أن البحث في أسباب مرض أو التركيبة الجينية لميكروب مرض التي تستغرق شهوراً أو سنوات يمكن للبرنامج الجديد عمل خريطة مفصلة لها على شاشة الكومبيوتر في غضون ساعات، وهو اكتشاف مذهل في مكافحة الأمراض، يقف في مصاف اكتشاف الميكروسكوب، أو اكتشافات لويس باستير (1822 - 1895) التي أصبحت أساساً للوقاية والتطعيم، أو ألكسندر فلمنغ (1881 - 1955) للبنسلين في 1928.
وسبب آخر لرفع القبعات تحية للعلماء هو تفاعل الناس العاديين مع العلم اليوم بشكل غير مسبوق. والمتابع لوسائل التواصل الاجتماعي في بريطانيا اليوم سيرى أن المواطنين في مجادلاتهم يعرفون أسماء كبير علماء المملكة المتحدة، ونائبيه، وحكيمباشي الصحة العامة ونوابه، وكبار اختصاصيي التطعيم، ومستشاري الحكومة لمكافحة الوباء، أكثر مما يعرفون أسماء أبطال الرياضة ونجوم السينما والمطربين.. أسماء علماء لم تكن معروفة إلا للمختصين. السبب طبعاً ظهور العلماء والباحثين في مجالات الطب والبيولوجيا في المؤتمرات الصحافية واللجان البرلمانية، لإيصال آخر معلومات وإرشادات مكافحة الوباء للشعب، رغم أن دوافع الساسة أصلاً هي استخدام العلماء والباحثين دروعاً بشرية يختفون وراءها خشية تحمل المسؤولية أمام الشعب.
ورغم ادعاء كثيرين (خاصة الساسة وأعداء حرية التعبير لاتخاذ ذلك ذريعة لفرض الرقابة) انتشار أخبار زائفة وتعميمات مضللة بشأن الأمصال، فإن المتابع للبوستات على وسائل التواصل الاجتماعي سيرى أن الأغلبية يجتهدون في البحث والحصول على المعرفة العلمية للتعامل مع الوباء، ومتابعة أحدث الاكتشافات. الظاهرة غالباً ما ستؤدي إلى اهتمام عدد أكبر من الشباب بالتوجه لدراسة العلم، ومتابعة الأبحاث التي تفيد البشرية على طريق التقدم. وشابو للعلماء.