السودانيون في ولعهم الشديد بالسياسة، وإدمانهم على أحاديثها، لديهم قدرة عجيبة في القسوة في أحكامهم على سياسييهم. فنحن شعب لا تخلو منصاتنا أو مجالسنا في الأفراح أو في الأتراح، من أحاديث السياسة. الكل محلل، والكل لديه رأي في كل صغيرة وكبيرة في الشأن السياسي، وفي كيفية إدارة الاقتصاد، وتحديد السياسة الخارجية، مثلما لديه رأي في كل ما يتعلق بشاغلي المناصب السياسية. تغلب العاطفة والحماسة في كثير من الأحيان على الأحكام، وتطغى حتى على دقة المعلومة أو مقتضيات الواقعية.
لم يسلم من هذا الأمر أكثر السياسيين وشاغلي المناصب العامة في السودان، لكن السيد الصادق المهدي، عليه رحمة الله، ربما تلقى أكثر من غيره سهام الناس ونقدهم. فهو قد أخذ حيزاً كبيراً في المشهد السياسي لأكثر من 60 عاماً، رئيساً للوزراء فترتين متباعدتين، ومعارضاً متنقلاً بين السجون والمنافي جل حياته السياسية. نال قسطاً وافراً من عنت وظلم الأنظمة الاستبدادية مثل كثيرين في بلد عانى أكثر من نصف قرن مع هذه الأنظمة، لكن أكبر مشقة ربما يكون عاناها هي ظلم وتهجم الكثير من الناس عليه بلا هوادة. صحيح أنه كشخصية عامة أثارت الكثير من الجدل وحفزت الكثير من النقاشات، كان متوقعاً أن يثير الانقسام حوله ويصبح عرضة للنقد وبعضه مبرر ومستحق، لكن ما تلقاه من سيل الانتقادات كان في كثير من الأحيان غير منصف أيضاً.
مثل كل الناس لم يكن المهدي معصوماً من الأخطاء، بل ارتكب نصيبه منها في سيرته الطويلة الحافلة بالعطاء والنجاح أيضاً، لكنها كانت أخطاء في التقديرات والحسابات وليس لسوء نية إزاء البلد وشعبه. بعض الناس اتهموه بحب السلطة والاستماتة في العودة إلى رئاسة الوزراء ما جعله يرتكب أخطاء فادحة، لكن هؤلاء تجاهلوا أمرين؛ الأول أن كل السياسيين يطمحون إلى ارتقاء المناصب والنفوذ، وإلا لما خاضوا معترك السياسة وأوحالها أصلاً. الثاني أن المهدي أتيحت له فرص كثيرة للعودة إلى رئاسة الوزراء من خلال اتفاقات مع الأنظمة الاستبدادية التي تعاقبت على حكم السودان، لكنه وإن عقد مصالحات معها لاعتبارات وحسابات كثيرة من حق الناس أن يختلفوا معه بشأنها، إلا أنه لم يأخذ بتلك الفرص، فلماذا لم يفعل إن كان كل مراده المنصب بغض النظر عن الثمن أو المبدأ؟
الحقيقة أنه كان كثيراً ما يكرر موقفاً سمعته منه كما سمعه غيري، أنه لن يتسلم رئاسة الوزراء إلا عبر صندوق الاقتراع، مؤكداً إيمانه الذي لا يتزحزح بالديمقراطية طريقاً لحكم السودان. قرأت وسمعت تسجيلات آخرها لوزير المالية الأسبق إبراهيم منعم منصور عليه رحمة الله، تذكر أن المهدي عندما عاد إلى السودان في ديسمبر (كانون الأول) 2019 مع اندلاع الثورة، كان قد توصل إلى تفاهم أو اتفاق مع نظام عمر البشير يتولى بمقتضاه رئاسة الوزراء، لكنني أشك أنه كان سيتقلد المنصب حتى لو كانت عودته باتفاق. لا أعرف تفاصيل ما قيل عن اتفاق تم بينه وبين الحكومة، لكنني أستبعد أن يكون بحنكته وتجربته الطويلة عزم فعلاً على تولي رئاسة الوزراء في نظام كان واضحاً للناس أنه يحتضر.
كنت قد التقيته في لندن قبل أيام قليلة من عودته تلك، ودار بيننا حديث تطرق إلى كيفية التغيير وإمكانية حدوث انتفاضة شعبية. كان انطباعي وقتها أنه يفكر في التغيير عبر الهبوط الناعم للنظام، ويتخوف من سفك الدماء إن حدثت انتفاضة وتصدت لها قوات النظام وكتائبه بالبطش المعهود. وقد وجدته كالعادة مهموماً بشأن الوطن وأحواله وكيفية فك الضائقة عن أهله وإعادته إلى سكة الديمقراطية، ولم أشعر في أي لحظة أثناء ذلك اللقاء أنه كان يفكر في أي شيء غير إحداث التحول في السودان من حكم الاستبداد إلى رحاب الديمقراطية.
فالصادق المهدي مهما قيل عنه لا يمكن المغالطة في أنه كان مؤمناً بالديمقراطية طريقاً للسودان، وسطياً بلا هوادة، ميالاً إلى اللاعنف، وفصل في هذه الآراء في الكثير من كتاباته. فهو كان رغم مشاغله نموذجاً للسياسي المثقف واسع الاطلاع، وفوق كل ذلك جسّد قيم السودانيين في تواضعهم واعتدالهم وسماحتهم وتوادهم. لم يتكبر أو يترفع، بل كان حريصاً على بقاء تواصله مع الناس، كل الناس، يلاقيك بابتسامة عريضة، ويحييك بود شديد، ويجالسك فلا تلمس منه سوى أدبه الجم وقدرته العجيبة على الإنصات لمحدثيه بكل اهتمام حتى ولو لم يوافقهم الرأي.
رحيله قبل أسبوع كان بإجماع الناس ومن بينهم خصوم، فقداً كبيراً في وقت يبدو السودان أحوج ما يكون إلى خبرته وحنكته، وسعة أفقه السياسي، وقدرته على التأثير في المشهد وجمع القوى السياسية المتجاذبة. الفراغ الذي تركه لن يكون سهلاً ملؤه وسيلمس الناس ذلك عاجلاً أم آجلاً، لكن الحياة لا تتوقف لموت إنسان، ما يعني أن القيادات السياسية الأخرى عليها أن تسعى للملمة أطرافها وتوحيد رؤاها للوصول بالفترة الانتقالية إلى أهدافها، لأن هناك من قد يرى رحيل المهدي إضعافاً لساحة غير متماسكة، وفرصة لضرب الثورة التي تآكلت كثيراً بسبب الخلافات والتجاذبات.
حزب الأمة أيضاً يحتاج إلى وقفة للتفكر ولملمة أطرافه، فهو كغيره من الأحزاب تعرض لانقسامات هزته وانعكست بشكل أو بآخر على الساحة السياسية. وعلى الرغم من بعض الجهود التي جرت لمعالجة التشرذم الذي حدث، فإنها لم تكتمل، وربما يحتاج الحزب الآن أكثر من أي وقت مضى لتحرك جاد وسريع لتجميع صفوفه. أضف إلى ذلك أن السيد الصادق كان يتمتع بحضور طاغ مكنه من الجمع بين قيادة حزب الأمة وإمامة كيان الأنصار، وهو ما قد لا يتاح لغيره الآن. وربما يحتاج الحزب في هذه اللحظات المهمة في مسيرته إلى العودة إلى نهج الفصل بين الموقعين والنظر في فتح التنافس خارج حدود الأسرة.
يبقى القول إننا عانينا في السودان من ظاهرة «اغتيال الشخصية» لكل من يتقدم للعمل العام، ما أسهم في تشويه العمل السياسي، وإضعافه وإرباكه، بل وأسهم في هز الاستقرار السياسي وزعزعة الحكومات في فترات الديمقراطية بشكل خاص. هذا الأمر يصبح أكثر خطورة في زمن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. فالكلام ينطلق في الفضاء الإنترنتي على عواهنه، فتختلط الحقائق بالشائعات، والرأي مع الخبر، والمعلومة مع التضليل، ويجري تناقل كل ذلك بسرعة عجيبة من غير تفكر أو انضباط، فتصبح الشائعات حقائق لا يمكن السيطرة على آثارها وأضرارها. وبذلك لا نكون قد جنينا على الناس من دون دليل فحسب، بل نكون قد أسهمنا في إثارة البلبلة وتقويض الاستقرار مثل ما نراه اليوم ورأيناه بشكل خاص في فترات الديمقراطية القصيرة.
رحم الله السيد الصادق المهدي فقد ناله في حياته الكثير من هذا. فهل نتعلم شيئاً من وفاته ومن فيض المشاعر التي حاولت أن تنصفه بعد فوات الأوان.
8:2 دقيقه
TT
هل يتعلم السودانيون؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة