هناك أربع سمات شخصية يمكن ملاحظتها بشكل واضح عند التعامل مع الأفراد الذين يتبنون الاتجاهات الفكرية العامة لجماعة الإخوان المسلمين: التمجيد والإطراء المبالغ فيه لإردوغان، شيطنة دولة الإمارات ورموزها السياسية والتصور الساذج بتبعية حلفائها، والهجوم اللاعقلاني ضد القيادة السياسية المصرية والجيش المصري، ومشاهدة قناة «الجزيرة» وتوابعها الإعلامية. هذه العناصر الأربعة غالباً ما تكون متلازمة ومتداخلة في كل مكونات الخطاب السياسي الذي ينتجه المنتسبون إلى جماعة الإخوان. بمعنى أنه من النادر جداً أن تجد إخوانياً يعظّم من شخصية إردوغان ويتلمس المسوغات غير المنطقية لكل عثراته وفي الوقت نفسه يتبنى مواقف حيادية حيال القيادة المصرية أو الإماراتية؛ أو العكس. وهذا الأمر يقودنا إلى اعتبار أن كل تلك العناصر الأربعة متداخلة وغير منفصلة، وبالتالي فإنَّ سقوط عنصر واحد منها سيدحض على الأرجح انتماء الفرد إلى جماعة الإخوان؛ إذ يندر في هذا السياق أن يجتمع في قلب من ينتمي إلى جماعة الإخوان تأييد سياسات الرئيسين إردوغان والسيسي معاً، أو مشاهدة قناة «الجزيرة» و«العربية» في آنٍ واحد؛ لأن هذه العناصر غير قابلة للفصل أو الإسقاط في تشكيل بنية الشخصية أو في رسم ملامح الاتجاهات العامة لها. ولهذا السبب فهي تسمى متلازمة، أي مجموعة من الاتجاهات الفكرية المرتبطة مع بعضها والمتداخلة فيما بينها، ومن النادر إسقاط عنصر منها وتبني الآخر عند النظر أو تحليل الشخصية المراد دراستها.
وفي الحقيقة، فإن المشكلة أكثر تعقيداً مما يتصوره الفرد منذ الوهلة الأولى عند رصد مكونات هذه المتلازمة السياسية. فصعوبة التحليل لا تكمن مع المنتسب الأصيل للإخوان (genuine Ikhwan) الذي يعلن بكل صراحة انتماءه للجماعة، والذي تظهر هذه العلامات الأربع في خطابه وأديباته السياسية وتنعكس على سلوكياته بشكل واضح وجلي، ويتبنى هذا الاتجاه الفكري بشكلٍ واعٍ ومقصود. ولكن مكمن الخطورة هو مع الأفراد المتأثرين بأطروحاتهم، والذين تظهر فيهم مكونات هذه المتلازمة السياسية من دون وعي أو قصد، والذين ينكرون انتماءهم للجماعة أو تأثرهم بمنهجها الفكري على المستوى النظري، إلا أن مخرجات سلوكياتهم الاجتماعية ومنتوج خطابهم من حيث الدلالة والمعنى تشير إلى تأثرهم بمرجعية التحليل السياسي للإخوان، وهيمنة هذه المتلازمة السياسية بكل مكوناتها على طرائق تفكيرهم وسلوكياتهم. ولذلك؛ يجدر أن نطلق على هذه الفئة التي تنكر انتماءها للجماعة نظرياً، ولكنها عملياً، وبشكل لا واعٍ وغير مقصود؛ تهيمن عليهم الأعراض السياسية للمتلازمة مصطلح الإخواني المزيف (pseudo Ikhwan). وقد يندرج ضمن هذه الجماعة الأخيرة تيار واسع من اليساريين والليبراليين والكثير من عامة الناس بسبب تغلغل الفكر الإخواني في كل هياكل وبنى رأس المال الاجتماعي في العالمين العربي والإسلامي. وتتعمق المشكلة بشكلٍ أكبر عندما يوظف الإخواني الأصيل الإخواني المزيف من دون دراية ووعي حقيقي من الأخير بأنه مجرد ترْس في مكنة المشاريع والأهداف الاستراتيجية الكبرى التي يديرها الأول. وقد تكرر مشهد هذا التوظيف البراغماتي في أكثر البلدان العربية عند تحولات «الربيع العربي» في مصر واليمن وتونس وسوريا وليبيا، عندما نجح الإخوان الأصلاء في توظيف الحركات الحقوقية الليبرالية واليسارية والمدافعين عن الحقوق والحريات التي لعبت دور الإخواني المزيف، وقدّمت بشكل لا واعٍ خدمات استراتيجية كبرى لجماعة الإخوان المسلمين، رغم تناقض منطلقاتهم الفكرية وتضارب مرجعيتهم القيمية الكلية في الاستدلال على الواقع السياسي.
وتكتيك تقسيم العمل بين الإخوان الأصلاء والإخوان الزائفين غالباً ما يتم اتباعه في المؤسسات العامة وقطاعات تشكيل الوعي المعرفي والاجتماعي والسياسي. ففي الكثير من الحالات، يتخفى الإخوان الأصلاء وراء الإخوان الزائفين؛ لأن تحقيق أجندتهم الخاصة ونجاح مخططاتهم السرية واكتساب الشرعية الدولية في بعض الحالات مشروط بغياب تصدرهم المشهد السياسي، وإفساح ميدان السلطة للإخوان الزائفين للإدارة الشكلية لصناعة القرارات، في حين أن الإخوان الأصلاء هم من يديرون خيوط اللعبة بأكملها من وراء الستار ووراء الكواليس. وهذا الأسلوب من العمل التكتيكي عادة ما يتكثف في المنظومات العقلانية الأربع المتحكمة في الوعي الجمعي، والتي تشكل أهم عناصر التنشئة الاجتماعية التي تصوغ وتبلور الوعي العام في المجتمع: الإعلام، التعليم، الأسرة، المؤسسات الدينية. وفي الواقع، فإنَّ من يمتلك مصادر تشكيل هذه الرباعية المسيطرة على العقل الجمعي، فقد تحكم في كل مفاصل القوة وهياكل السلطة. بل يمكن القول بأن من يتحكم بوسائل إنتاج تلك القوى الوسيطة العقلانية الأربع هو من سيمتلك روح وعقل المجتمع ويتحكم في بنية الشخصية الاجتماعية الكلية، ويبرمج نشاط وردود الفعل لأفراده. وقد أثبتت التجارب التاريخية بأنَّه في بعض المراحل التي تتآكل فيها القوة الحقيقية للإخوان الأصلاء بالسيطرة على هذه المؤثرات الأربعة، فإنها تحيل سلطة السيطرة بشكل أو بآخر إلى الإخوان الزائفين لتحقيق أجندتهم الخفية بهم من وراء الكواليس.
وفي هذا السياق، من الممكن التمييز بين الإخوان الأصلاء والإخوان الزائفين من حيث الدوافع الآيديولوجية وبنية الشخصية، ففي حين أن الإخواني الأصيل غالباً ما يميل إلى التصريح بميوله ودوافعه الآيديولوجية علانية وبشكلٍ واعٍ والتقلب البراغماتي وفق تغير الظروف السياسية، فإن الإخواني المزيف غالباً ما يكون منفصلاً عن تلك الدوافع الآيديولوجية بشكل لا واعٍ، ومتناقضاً على مستوى الفكر والسلوك، بحيث يؤكد المستوى المفاهيمي والنظري والفكري انفصاله عن جماعة الإخوان، وإنكار انتمائه للمرجعية الفكرية الكلية لتلك الجماعة، في حين أن موجهاته الإدراكية، ودلالات خطابه السياسي، وسلوكياته الذاتية وردود أفعاله تؤكد تأثره بمنظومة التفكير السياسي لتلك الجماعة. ومن المفارقات المثيرة التي تستوجب دراسة إمبريقية واسعة، أن الإخوان الزائفين في بعض الحالات والمواقف السياسية يظهرون ردود أفعال متشنجة أكثر تزمتاً وتعصباً من الإخوان الأصلاء حيال الاتجاهات التي تمس مكونات المتلازمة السياسية المذكورة. بل والأكثر خطورة أن معظم الإخوان الزائفين غالباً ما يكونون أكثر ميلاً للانحياز إلى الدعاية والبروباغندا الإخوانية الفاشية من دون وعي وإدراكٍ حقيقي بأن الأصلاء غالباً ما يوظفونهم «كمطايا أداتية» أو «كحصان طروادة» أو كأدواتٍ سياسية من أدوات الصراع السياسي، وعند لحظة قطف الثمار عادة ما تنفض عملية التواطؤ الضمني مع الإخوان الزائفين ويعاد إنتاج تحالفات جديدة يكتشف في معظمهما الإخوان الزائفون بأنهم خارج منظومة لعبة الخيارات العقلانية التي يتم من خلالها تعظيم المكاسب الذاتية للجماعة، وتقليل الخسائر الممكنة إلى الحد الذي يُقدمُ فيها الإخوان الزائفون قرباناً إلى مذبحة المنافع المحتملة للإخوان الأصلاء، وهو الأمر الذي أفضى إلى صراعات دموية، كحال تحالفات الجماعة مع الناصريين والسادات في مصر، ومع المؤتمريين في اليمن والسودان، والبعثيين في سوريا، وغيرهم من الدول الأخرى.
وليس من المتعذر علمياً قياس تلك المتلازمة السياسية التي تشكل بنية الشخصية الاجتماعية، وذلك عبر توظيف الأدوات البحثية الحديثة في مناهج العلوم الاجتماعية كاستطلاعات الرأي أو الاستبيانات أو المقابلات الشخصية، حتى يتسنى خلق الإمكانية العلمية في عملية التمييز بين الإخوان الزائفين والأصلاء. ففي مقتبل خمسينات القرن المنصرم، حاول مجموعة من كبار علماء النفس الاجتماعي، لا سيما رواد الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت، وضع مقياس للتعرف على بنية الشخصيات التسلطية التي كانت «من المحتمل» أن تستبطن ميولاً فاشية معادية للديمقراطية بهدف التمييز بينها وبين «المعادين الأصلاء للديمقراطية»، مع انتشار الحركات الفاشية، وشيوع الأفكار المعادية للسامية، وبروز اليمين المتطرف المعادي للديمقراطية ومؤسسات الدولة في ذلك الوقت. وكان تركيز الدراسة على علاقات الارتباط التي تبرر «إمكانية أو رجحان» تبني الاتجاهات الفاشية في بنية الشخصية التسلطية التي تدفعها لمعاداة الديمقراطية رغم إنكارها لتوجهاتها العدائية، بدلاً من التركيز على «المعادي الأصيل للديمقراطية». وفي حين أطلقوا على النمط الأول من الشخصية «الديمقراطي المزيف»، أطلقوا على النمط الآخر «المعادي الأصيل للديمقراطي».
وقد أُنتجت هذه الدراسة التي تجاوزت الألف صفحة تحت عنوان «الشخصية التسلطية»، وكانت عينة الدراسة فيها واسعة ومناهج المسح البحثي متنوعة؛ إذ اشتملت على ما يربو على ألف نموذج من الاستطلاعات المنظمة للرأي، وعدد كبير من المقابلات الشخصية، فضلاً عن التشخيصات والاختبارات الإكلينيكية. بالإضافة إلى اختبار تسع فرضيات أساسية تشكل متلازمة للاتجاهات الفاشية التي من المرجح أن تبرز داخل بنية الشخصية التسلطية، مماثلة لاحتمالات متلازمة الإخوان السياسية المذكورة. ولعل من أبرز تلك الفرضيات الكامنة المراد اختبارها والتي شكلت في تشابكها وتداخلها متلازمة متماسكة تتمظهر بكل تجلياتها الفاشية في بنية الشخصية التسلطية محل الدراسة، هي: كراهية التغيير الاجتماعي، وغياب الرؤية النقدية للقيم والموجهات الإدراكية للجماعة التي ينتمي إليها الفرد، والانشغال الأخلاقي بالنشاط الجنسي للآخر، وتقسيم العالم لتصنيفات صلبة ونمطية وغير مرنة، ورؤية العالم كمصدر تهديد دائم، وعدم القدرة على تحمل الغموض في تفسير الأحداث وإحالتها إلى مصادر بدائية ومبسطة في منهجية التفكير كنظريات المؤامرة أو الارتكاز على الخرافة، وغيرها من الفرضيات الأخرى.
وقد كان من أهم مخرجات الدراسة، أن إمكانية الاستعداد للاستجابة لإنتاج سلوك فاشي معادٍ للديمقراطية على الأرجح بروزها عند «الديمقراطيون الزائفون» الذين ينكرون نظرياً بأنهم معادون للديمقراطية رغم أن سلوكياتهم الفاشية تبدو عملياً معادية للديمقراطية، وبسبب هذا الميول الفاشي المتناقض واللاوعي فهم أشد خطراً على الديمقراطية من المعادي الأصيل للديمقراطية كما استنتجت الدراسة، وهو الحال الذي يستقيم بشكل أو بآخر مع تصنيفنا للإخواني الأصيل والإخواني المزيف المتنكر لإخوانيته.
وبطبيعة الحال، فإن مخرجات هذه الدراسة قد تعرضت إلى نقد علمي أسوة بأي دراسة علمية، سواء في مجال العلوم الإنسانية أو في ميادين العلوم الطبيعية. بيْد أن هذا النقد المنهجي لم يلغِ حقيقة أن هذه الدراسة شكلت تحولاً علمياً في النماذج الإرشادية في التفكير العلمي في دوائر العلوم الاجتماعية سواء على مستوى البنية النظرية أو على صعيد الإطار والأدوات المنهجية المستخدمة في الدراسة. ورغم أن نتائج هذه الدراسة قد أحدثت ضجة فكرية واسعة في منتصف القرن المنصرم، فإن كثيراً من الباحثين أعادوا إنتاج مخرجاتها البحثية في العقد الأخير من هذا القرن بهدف دراسة بروز اليمين المتطرف في العالم الغربي، وفهم الظاهرة «الترمبية»، التي أطلق عليها بعض أساتذة العلوم الإنسانية مسمى «الترمبولوجي» لإبراز مدى تغلغل عناصر الشخصية التسلطية في الأفراد المنتسبين إلى اليمين المتطرف الذين تقاطعت معتقداتهم الآيديولوجية مع التوجهات الآيديولوجية العدائية للرئيس ترمب.
ما يجدر قوله في الختام، أن طبيعة بنية الشخصية الاجتماعية الفاشية من المحتمل جداً أن تظهر عند اليميني أو اليساري أو الليبرالي المتطرف، كما هو الحال عند الإخواني الأصيل أو المزيف؛ نظراً لتشكل أنماط تلك الشخصية تحديداً من روافد معرفية وإعلامية وسياسية موجهة آيديولوجياً تأبى التصالح مع الواقع الموضوعي لصيرورة الأحداث السياسية السائلة. وهذا النموذج من الشخصية الفاشية المتصلبة في منهجية التفكير الموضوعي، والمتقوقعة حول روافدها المعرفية الضيقة والتي تنتج في الغالب سلوكاً إقصائياً وعدائياً حيال العالم المغاير لها هي ما نطلق عليها في أدبيات العلوم الاجتماعية بنمط الشخصية التسلطية التي تستبطن إمكانات عالية في تبني توجهات فاشية حيال الآخر، والتي يمكن التعرف عليها علمياً من خلال مجموعة من الأنماط القيمية والمعرفية والسلوكية التي تنتج متلازمة كلية، مماثلة لاحتمالية المتلازمة السياسية للإخوان المشار إليها في أعلى المقال. إلا أنه يجدر التنويه بأن هذه المتلازمة السياسية للإخوان ليست حصرية؛ إذ إن بعض الفرضيات المشار إليها آنفاً في دراسة الاتجاهات الفاشية في بنية الشخصية التسلطية تتقاطع إلى حدٍ كبيرٍ مع تفكير وسلوكيات كثير من المنتسبين لجماعة الإخوان، سواء كانوا أصلاء أو مزيفين، وبالتالي من الممكن إعادة إنتاجها واختبارها من جديد، خارج سياق الثقافة الغربية، على الاتجاهات الفاشية في أنماط الشخصية التسلطية عند الإخوان الأصلاء والمزيفين للاستدلال على صحة تلك الافتراضات أو تكذيبها على الأقل في سياق ثقافة محلية مغايرة بهدف التعرف على البنى الاجتماعية المشكلة للدوافع النفسية الكامنة في الأفراد والموجهة سلوكياتهم وتفاعلاتهم الاجتماعية. ومع كل ذلك، يبقى العامل الحاسم في فرز أنماط تلك الشخصية الإخوانية وتحولاتها العقائدية والسلوكية، والحكم عليها هي بالدراسات التجريبية على غرار الدراسة المذكورة وليس بالاجتهادات الشخصية والبروباغندا المضادة، والأهم من ذلك القدرة الإبداعية للجهة البحثية، سواء كانت ممثلة في فرد أو مؤسسة، في خلق المحفزات والظروف المواتية التي من خلالها يمكن كشف ورصد «الإخواني المزيف اللاواعي المتنكر لإخوانيته» وتمييزه عن «الإخواني الأصيل الواعي والمؤكد لانتمائه للجماعة».
* باحث في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
TT
متلازمة الأعراض السياسية عند «الإخوان»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة