داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

السلام الهش بين أرمينيا وأذربيجان

أفضل ما في الحروب، إن كان هناك شيء فاضل فيها، أن تكون في الأفق تسوية أو حلول سلمية توقف الاشتباكات وإزهاق الأرواح. وأسوأ ما في الحروب ألا تكون هناك أي حلول سلمية. وأوضح مثال على ذلك الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت في الثمانينات من القرن الماضي 8 أعوام دامية من دون أن تلوح أي فرصة للسلام. فقد رفضت إيران، خلال العام الثاني لسقوط النظام الملكي وقيام نظام ولاية الفقيه، العروض العراقية لوقف الحرب في الأسبوع الأول لاندلاعها. ورفضت طهران أيضاً كل الوساطات العربية والإسلامية والدولية، ولم تقتنع بضرورة وقف الحرب التي أزهقت أرواح أكثر من مليون قتيل من الجانبين وقادتهما إلى حافة الإفلاس. لكن بعد 8 سنوات من رفض السلام وافق الخميني فجأة على وقف الحرب بمقولته الشهيرة: «تجرعت كأساً من السّم». وبذلك عاد البلدان الجاران إلى نقطة الصفر بعد أن دفعا ثمناً باهضاً لحرب طويلة ما زالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم.
وأمامنا مثال آخر ما زال ساخناً، وهو الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، التي بدأت أسبابها تتراكم وتتعقد منذ سقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1991 الذي ضم 15 دولة، هي روسيا وأوكرانيا وجورجيا وأذربيجان وأوزبكستان وتركمانستان وقرغيزستان وطاجكستان وكازاخستان ولاتيفيا وليتوانيا وإستونيا ومالدوفيا وروسيا البيضاء وأرمينيا. وكلها تحولت إلى جمهوريات مستقلة. في الواقع أن الحرب بين يريفان وباكو تعود أسبابها إلى عام 1918، وكانت تندلع وتتوقف حسب الظروف، ثم حدثت الهجرة الأرمنية، وما يسمى «المذبحة» التي امتدت إلى دول أخرى، ودفعت الأرمن إلى هجرة جماعية إلى دول مجاورة مثل تركيا وإيران وإلى دول بعيدة مثل سوريا والعراق ولبنان.
والحرب الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان لم تستمر أكثر من أسابيع، وتم حسمها كما أعلنت قناة «روسيا اليوم» الفضائية بانتصار «روسيا وتركيا»! ومعنى هذا أن الأيدي الخفية ما زالت توفر أسباباً أخرى لاستئناف الحرب في أي وقت، وخاصة في الجانب الأرميني الذي خسر في اتفاق وقف الحرب بعضاً من أراضيه لصالح أذربيجان التي تعتبرها تابعة لها منذ بدايات القرن الماضي.
أذربيجان دولة إسلامية شيعية المذهب، لكنها لا تتبع نظام ولاية الفقيه في إيران. ومن المفارقات أن طهران كانت حائرة في الحرب الأخيرة بين الهوى المذهبي الذي تمثله أذربيجان والعلاقات الطيبة التي تمثلها أرمينيا. لكن الأرمن المنتشرين في أنحاء العالم متضامنون مع بلدهم الأصلي بالمساعدات والمتطوعين.
على العموم فإن الأرمن كانوا دائماً ضحايا الحروب والمذابح والهجرات الجماعية إلى دول الجوار، وانتشروا بعدها في أوروبا وأميركا ووصلوا إلى أستراليا ونيوزيلندا. وفي نظري الشخصي أنهم شعب مسالم، وأنا أبني نظريتي على حكاية شخصية رافقتني منذ طفولتي. فالأرمن كانوا منتشرين في كل المحافظات العراقية وليس في العاصمة فقط، سواء المحافظات الجنوبية أو المحافظات الدينية أو المحافظات الكردية. ويتميزون عن كثير من العراقيين بالمهارة في أعمال الكهرباء وصيانة السيارات والمحركات.
في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي كانت تسكن بجوارنا في مدينة خانقين على الحدود العراقية الإيرانية أسرة أرمنية هاجرت من أرمينيا إلى تركيا ثم إلى العراق بعد مذابح الأرمن الشهيرة في عام 1915. وأتذكر أن والد تلك الأسرة كان يحمل اسم «وارطان» وهو من الأسماء الشائعة لدى الأرمن، أما أسماء أولادها وبناتها فأتذكر منها؛ أنترانيك وسنباط وسيروارت وسيرانوش وآسيا. كانت عائلة بسيطة متواضعة تأكل مما تزرع في حديقتيها الأمامية والخلفية من الباميا والفلفل والطماطم والباذنجان والخيار والكرفس بالإضافة إلى بعض الفاكهة. وتربي في جانب من الحديقة مجموعة من الدجاج التي كنت أستيقظ كل صباح على صياح ديوكها النشيطة الجميلة. وللأسرة جدة طاعنة في السن، محدودبة الظهر، تتحدث العربية بشكل متكسر، لكنه يفي بالغرض، وكانت تتحدى الزمن، فتستيقظ مبكرة قبل طلوع الفجر لإطعام الدجاج وجمع البيض من الأقفاص وسقي المزروعات. وكثيراً ما سمعتُ تلك الجدة تُحدث والدتي - رحمهما الله - عما تعرض له الأرمن من مذابح وويلات، وأنهم لم يعرفوا السلام والأمان إلا في العراق. طبعاً هذا الحكي في العهد الملكي وليس في العهد الجمهوري.
كانت تلك الأسرة المسالمة هي معلوماتي الأولى عن الأرمن في العراق الذين وصل تعدادهم إلى ربع مليون نسمة، لهم تجمعاتهم الخاصة في بغداد والموصل مثل منطقة «كمب الأرمن» السكنية في بغداد المقابلة لكنيستهم ومقبرتهم. ووجدت في إحدى الدراسات أن وجود الأرمن في العراق يعود إلى قرون كثيرة، وقد أنشئت أول «أبرشية» لهم في البصرة عام 1222. وتوجد أقدم كنيسة لهم في بغداد في منطقة الميدان وهي كنيسة «مريم العذراء» وتم بناؤها عام 1636 خلال حكم العثمانيين. ومثل ملايين العراقيين اضطر الأرمن إلى الهجرة من العراق بسبب الحروب والحصار الاقتصادي والأوضاع الأمنية المتردية طوال العقود الأربعة الأخيرة.
ومن الشخصيات الأرمنية العراقية المعروفة، المستر كالوست كولبنكيان، أو «المستر خمسة بالمية» الذي أنشأ ملعب الشعب الدولي ومدينة الطب في بغداد، وله حصة في نفط العراق قبل تأميمه تبلغ 5 في المائة. إلا أن أشهر أرمني عراقي هو آرا وارتكيس ترزيان الذي ولد في بغداد عام 1960. وكانت أسرته قد هاجرت إلى العراق مع ألوف الأسر الأرمنية هرباً من المذابح الشهيرة؛ حيث استقرت وعملت وتجنست بالجنسية العراقية، وتمتعت بجميع الحقوق التي يتمتع بها العراقيون العرب والأكراد والتركمان وسائر الأقليات، وفَرَحَتْ مع أفراح العراقيين... وما أقلها، وحَزَنَتْ مع أحزانهم... وما أكثرها. وبعد أن أنهى آرا وارتكيس دراسته الثانوية في مدرسة أميركية في بغداد رحل مع أسرته إلى إيرلندا وأقام في دبلن؛ حيث درس الطب وأصبح رائداً في نوع من العمليات الجراحية الجديدة والمعقدة، وحصل في الرابعة والأربعين عاماً من عمره على لقب «سير» من ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية تقديراً لجهوده الإنسانية والعلمية. والخبر الأهم أن هذا الطبيب العراقي آرا وارتكيس ترزيان شغل في عام 2009 منصب وزير الصحة في بريطانيا العظمى. ولو كان الدكتور آرا لم يهاجر من العراق ويأخذ فرصته التي يستحقها في بريطانيا، لكان أصبح بائع بسطرمة أو مصلح سيارات أو تاجر أجهزة كهربائية.
ويبلغ عدد الأرمن في العراق اليوم نحو 20 ألف شخص يتوزعون على بغداد والبصرة والموصل وكركوك وزاخو وبعض القرى الكردية. إلا أن المعلومة التي يعرفها قليلون هي وجود أرمن مسلمين، بالإضافة إلى الأرمن المسيحيين.
الهدنة والسلام بين أرمينيا وأذربيجان بحاجة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن لحماية اتفاق السلام الهش، فانتصار «روسيا وتركيا» ليس انتصاراً لأذربيجان ولا لأرمينيا.