فاي فلام
TT

لا تفزعوا من قصص إعادة الإصابة بـ«كوفيد ـ 19»

غالباً ما تدور القصص الأكثر استحواذاً على الاهتمام وإثارة للرعب فيما يخص الوباء الحالي، حول حالات فردية - من عينة شخص أصيب بالفيروس مرتين، أو شخص شاب ورياضي يموت جراء الإصابة بالفيروس، أو شخص كبير في السن من المحتمل أنه كان حاملاً للعدوى على امتداد أكثر من شهرين. والخوف أن تكون مثل هذه الظواهر منتشرة، لكن العلماء الذين عكفوا على دراسة المرض المسبب للعدوى الناجم عن الإصابة بالفيروس يقولون إنه من الطبيعي معاينة تباينات متطرفة في ردود فعل الأجسام البشرية لأي فيروس.
خلال فترة مبكرة من ظهور الوباء، غالباً ما وصف الناس المرض بناء على تجربتهم أو تجربة شخص يعرفونه. وقال البعض إنه مجرد زكام لأن هذا هو ما عايشوه، بينما أكد آخرون أنه كان أسوأ ما أصابهم على الإطلاق. وكلا الفريقين صحيح وصادق. إلا أن الإفراط في تعميم مثل هذه التجارب يمكن أن يعزز حالة الاستقطاب السياسي حول الوباء، وهو أمر لا ينبغي حدوثه بالتأكيد. وعندما ننظر إلى الصورة الكبيرة نجد أن «كوفيد - 19» ليس «الموت الأسود» وليس مجرد زكام.
في هذا الصدد، أوضح الدكتور دان باروش، الباحث بمجال الأمصال في كلية الطب التابعة لجامعة هارفارد، أن «ثمة تنوعا هائلا في استجابات جهاز المناعة والاستجابات للعدوى». وينطبق هذا القول على مسببات الأمراض الأخرى، من الإنفلونزا حتى السل وفيروس نقص المناعة. وأضاف باروش: «بعض الأحيان، يعود ذلك إلى اختلاف الجينات، وأحيانا أخرى يعود إلى اختلاف سلالة الفيروس. وفي أحيان أخرى، يرجع إلى التعرض لجرعات مختلفة من الفيروس أو سمات مناعية أخرى، أو عوامل ديموغرافية ـ وأحيانا يكون الأمر محض صدفة».
وأكد باروش أنه لا يشعر بالقلق إزاء وجود عدد قليل من الحالات الموثقة لمعاودة الإصابة بالفيروس. ورغم وجود ما يزيد على 25 حالة مسجلة للإصابة من جديد بالفيروس، فإنها تظل نسبة بالغة الضآلة من عشرات ملايين الحالات التي وقعت على مستوى العالم.
ومن بين أكثر الأمثلة المثيرة للاهتمام حالة دراسة وردت في دورية «لانسيت»، لرجل يبلغ عمره 25 عاما من نيفادا بأميركا أصيب مرة بالفيروس أواخر مارس (آذار) وعاودته الإصابة في مايو (أيار). وأظهر التحليل الجيني للفيروس أن هذا لم يكن تأثيرا طويل الأمد للعدوى ذاتها. وفي الوقت الذي تتسم فيه حالات معاودة الإصابة الأخرى بأعراض أخف وطأة في المرة الثانية، كانت أعراض الإصابة الثانية أشد حدة في هذه الحالة.
من جهته، قال المختص بجهاز المناعة فلوريان كرامر من مدرسة طب ماونت سيناي، إن هذا الأمر لا يثير الدهشة مطلقا، موضحا أن تركيز الأجسام المضادة داخل أفراد مختلفين أصيبوا بالفيروس يتبع شكلاً أقرب إلى منحنى الجرس. ورغم وجود استجابة اعتيادية مألوفة، تبقى هناك الكثير من التباينات عند الأطراف. بعض الأحيان، تفرز أجساد الأشخاص المصابين بعدوى أكثر حدة المزيد من الأجسام المضادة، لكن في أحيان أخرى نعاين تركيزات هائلة من الأجسام المضادة داخل أجساد أشخاص لم تظهر عليهم الأعراض قط.
ويرى كرام أنه مع تعرض ملايين الأفراد للإصابة، فإنه من غير المثير للدهشة أن نجد بضعة أشخاص يصابون بعدوى جديدة في غضون فترة قصيرة للغاية لاحقاً. في حالة الرجل الذي يعيش في نيفادا، أفرز جسد المريض أجساماً مضادة في الإصابة الثانية، لكن من المحتمل ألا يكون ذلك قد حدث في المرة الأولى.
وفي حالة أخرى في هونغ كونغ، رصد الأطباء تركيزاً منخفضاً للأجسام المضادة بعد الإصابة الأولى، ولم يعانِ المريض سوى أعراض طفيفة المرة الثانية من الإصابة. ومن بين الحالات التي وقعت في الفترة الأخيرة وتثير القلق سيدة يبلغ عمرها 71 عاما تعاني من مرض اللوكيميا ولم تظهر عليها أعراض قط ولم يفرز جسدها كميات معتبرة من الأجسام المضادة، ومع هذا بدا أنها ظلت مصابة وربما مسببة للعدوى لأكثر عن 70 يوما - فترة تتجاوز بكثير الأيام الثمانية التي يعتقد أن غالبية المرضى يكونون مسببين لانتشار العدوى خلالها. ومع هذا، ورغم هذه الاستثناءات، يبقى الخبراء الذين قمت باستشارتهم على اعتقادهم بأن غالبية الأفراد ستصبح لديهم مناعة على الأقل على مدار بضعة شهور بعد الإصابة بالعدوى. ويتوقعون أن تنجح اللقاحات في مواجهة الفيروس.
في هذا السياق، شرح كرامر أن جهاز المناعة داخل الإنسان يتسم بالتعقيد ويقدم عدداً أكبر من الدفاعات عن مجرد الأجسام المضادة. وينتج جسم المريض الأجسام المضادة خلال المرحلة المبكرة من العدوى، حسبما شرح كرامر. واستطرد موضحاً بوجود عامل آخر يتمثل فيما يطلق عليه خلية «بي» ذاكرة والتي تدور في الجسم لسنوات، وتحافظ على قدرة الجسم على التعرف على نفس الفيروس واستثارة استجابة جديدة من جهاز المناعة إذا ما عاود الظهور في الجسم.
علاوة على ذلك، تضطلع الجينات بدور دقيق في هذا الأمر. في هذا الصدد، أوضح اختصاصي الأمراض الروماتيزمية آرثر كريغ، مؤسس شركة «تشيكميت فاراكيوتيكالز»، أن الأشخاص الذين يعانون عيبا في جين يطلق عليه «تي إل آر 7» يمكن أن يتعرضوا لحالات حادة على نحو خاص من الإصابة بفيروس «كوفيد - 19».
جدير بالذكر أن هذا الجين يتولى مسؤولية تنظيم عمل بروتينات مقاتلة تحارب فيروسات تدعى «إنترفيرون»، والتي يطلقها الجسم سريعاً في أعقاب التعرض لمسببات الأمراض.
وتبعاً لما ورد بمقال نشرته «دورية الجمعية الطبية الأميركية»، فإن جين «تي إل آر 7» يوجد في الكروموزوم إكس، ما يجعل المشكلة أكثر شيوعاً بكثير في أوساط الذكور. (تجدر الإشارة هنا إلى أن الإناث لديهن نسختان من الكروموزوم إكس، وبالتالي من المحتمل أن ينتهي بهن الحال إلى وجود نسخة واحدة منهن على الأقل طبيعية).
في واحدة من الحالات التي تعرض لها المقال بالشرح، أصبح شقيقان في بداية العشرينات على درجة بالغة من المرض لدرجة أنهما احتاجا إلى التنفس الصناعي كي يبقيا على قيد الحياة. وفي حالة أخرى، دخل رجل يبلغ عمره 32 عاما وشقيقه البالغ 29 عاما إلى المستشفى، وتوفي الأخ الأصغر نهاية الأمر.
وشرح كريغ أن عاملا آخر يتمثل في الخبرة مع العدوى السابقة، موضحا أن هناك 4 أنواع من فيروس «كورونا» منتشرة بين الناس وتسبب البرد العادي. وقال إن التعرض لواحد من هذه الأنواع يؤثر في استجابة المرء لفيروس «كوفيد - 19». وتكشف ورقة بحثية جديدة نشرتها دورية «ساينس»، الجمعة، أن أكثر عن 5 في المائة من أفراد عينة شملت 302 شخص وأكثر عن 16 في المائة من أفراد مجموعة أصغر من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 16 عاما يحملون في أجسادهم مناعة ما تجاه فيروس «كورونا المستجد» تولدت عن عدوى سابقة.
وفي دراسة نشرت في سبتمبر (أيلول) في دورية «ساينس»، أظهر فريق من الباحثين بقيادة عالم الجينات بجامعة هارفارد ستيفن إليدج أن الأشخاص الذين مرضوا بسبب فيروس «كوفيد - 19» بما يكفي لدخولهم المستشفى كانوا أكثر احتمالاً بكثير لأن يكونوا قد أصيبوا سابقا بفيروسي الهربس الشائعين «سي إم في» و«إتش إس في - 1». ولا يختفي هذان الفيروسان تماما قط من الجسم. إلا أن الباحثين لم يستطيعوا أن يجزموا ما إذا كان هذان الفيروسان يجعلان الإصابة بفيروس «كوفيد - 19» أسوأ، وما إذا كان هؤلاء الأفراد أكثر عرضة للإصابة بالفيروسات.
من ناحية أخرى، ورغم أنه ساد اعتقاد في وقت مبكر من ظهور «كوفيد - 19» بأن مقدار الجرعة الفيروسية التي جرى التعرض لها تحدد مستوى حدة الأعراض ـ يطلق عليها الحمل الفيروسي، فإن الخبراء يؤكدون أن هذه تبقى مجرد فرضية.
ومن الممكن أن يتأثر مستوى حدة المرض من خلال عوامل تحدد مدى سهولة نمو الفيروس داخل الجسد بمجرد التعرض للإصابة - مثلا، أن يكون الشخص مرهقا. أيضا، يمكن أن تلعب عوامل بيئية دورا هنا، وقد أشار كريغ إلى أن أبحاثا أجرتها العالمة المتخصصة في جهاز المناعة بجامعة ييل، أكيكو إيواساكي أظهرت أن الهواء الجاف ربما يجعل الفيروس ينمو بسهولة أكبر داخل الممرات الأنفية.
وشرح كريغ أن التنوع في الاستجابة البشرية للفيروس تعني أنه من المحتمل أن تكون هناك تنوعات في فاعلية اللقاح، وهذا سبب وجيه يدعونا إلى محاولة كسب ثقة الرأي العام وضم الجميع إلى صفنا. إذا ما حصل عدد كاف من الأشخاص على اللقاح، من الممكن أن يحقق العالم مناعة القطيع، حتى وإن نجح اللقاح مع، على سبيل المثال، 70 في المائة فقط من الأشخاص. أما إذا حصل عدد ضئيل للغاية من الأشخاص على اللقاح، فإنه حتى من حصلوا على اللقاح ربما لن يكونوا بمأمن إذا ما ألقى بهم سوء الحظ في طريق الفيروس وكانوا عرضة على نحو خاص للإصابة به. وإذا حدث ذلك، فسنضطر جميعاً إلى العيش مع فيروس «كوفيد - 19» لفترة طويلة قادمة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»