عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

تناقضات الديمقراطية

ما يبدو تناقضات في وستمنستر، الأسبوع الماضي، يعود لخصوصية النظام البرلماني السياسي في بريطانيا، التي لا يوجد فيها دستور مكتوب (بالمفهوم الفرنسي الذي تتبعه مصر والبلدان العربية). القوانين والتشريعات المتراكمة منذ القرن الثامن الميلادي وتقاليد الممارسات البرلمانية نفسها، بجانب السوابق القضائية، تشكل في مجموعها ما نعرفه مجازاً بالدستور (المقابل لـconstitution) الاسم من فعل يتراكم، ويتكون، ويتركب، ويشرع، بجانب عشرات المعاني الأخرى.
والموازنة في إصدار تشريع أو تطبيقه قد تستغرق وقتاً طويلاً، لأن الأمر يتطلب التوافق بين تشريعات أصدرها البرلمان، وقوانين عمرها أكثر من ألف عام، وتقاليد بالممارسات اليومية، للتأكد من إمكانية تطبيقها، وليس بمجرد الاطلاع على كتاب ضخم يسمى (مجازاً أو اعتبارياً) الدستور كحال النظام الجمهوري الفرنسي مثلاً.
في الأسبوع الماضي في وستمنستر، لجأت الحكومة إلى الاعتماد على أصوات الخصوم من المعارضة للموافقة على قانون للحجر الصحي وتمديد العزل للوقاية من وباء («كوفيد - 19» المستجد) مدة شهر حتى الرابع من ديسمبر (كانون الأول) هذا العام، بعد أن تمرد نواب الحكومة على الحزب، ورفض عدد معتبر منهم دعم قرار حكومتهم في البرلمان.
في اليوم نفسه، سمعنا رئيس الوزراء المحافظ، بوريس جونسون، أثناء المساءلة الأسبوعية، يستشهد باقتراحات وأقوال الزعيم العمالي ورئيس الوزراء الأسبق توني بلير (199 - 2007)، للرد على خصمه، زعيم المعارضة الحالي الذي أصدر التعليمات لنوابه بدعم الحكومة بدلاً من معارضتها.
وبجانب التناقضين أعلاه، لوحظ توبيخ رئيس البرلمان، السير ليندزي هويل لرئيس الوزراء والوزراء مرتين لأن الحكومة أعلنت اتجاهات سياسية جديدة، وقرار الإغلاق الصحي من مقر الحكومة في «10 داوننغ ستريت»، وليس من قاعة البرلمان.
لا توجد لائحة أو قوانين تلزم رئيس الحكومة أو الحكومة نفسها بإعلان السياسات الجديدة أو التعديلات من البرلمان، لأن معها، دستورياً، تفويضاً لتمثل الدولة، أي الملكة، ولهذا تسمى في المراسلات الرسمية الدولية «حكومة جلالة الملكة». لكن التقاليد البرلمانية المتبعة هي إعلان السياسات أمام ممثلي الشعب. وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها رئيس الوزراء للتوبيخ للسبب نفسه، وهو إعلان إجراءات العزل الصحي من «داوننغ ستريت» وليس البرلمان، في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، وكانت أيضاً عطلة الخريف للبرلمان. لكن رئيس الوزراء وجد نفسه في مأزق اضطر معه لإعلان السياسة الجديدة لمكافحة «كورونا» بلا انتظار العودة للبرلمان؛ فقد سرب أحد الحضور في اجتماع مجلس الوزراء المصغر المعني بالأزمات المعلومات للصحافة التي نشرتها. وكان لا بد من تحديد معالم وتفاصيل السياسة والإجراءات، بدلاً من تركها للتخمينات والتقديرات المبنية على إشاعات أو تسريب معلومات، لخطورة الأمر على الصحة العامة، والأمن وإدارة الأسواق.
تسريب المعلومات إما كان من أحد الحضور، كأحد الوزراء، أو حكيمباشي الصحة العامة، أو كبير علماء المملكة المتحدة، أو من أحد الكتبة. أو ربما من أحد معاوني هؤلاء أو مستشاريهم في أقسامهم ووزاراتهم. نشر المعلومات في الصحافة بدوره يشكل صداعاً آخر لحكومة جونسون؛ فحرية الصحافة تقليد ديمقراطي وركن أساسي لشرعية النظام البرلماني. حرية الصحافة لا يضمنها دستور مكتوب، بل غياب القوانين التي تنظم حال وعمل الصحافة في بلدان الدساتير المكتوبة وغياب الديمقراطية. وعند الشكوى من الصحافة، يكون اللجوء للقضاء، والالتجاء للقوانين والسوابق، ويتوقف الأمر على إقناع القاضي (والمحلفين في حالة المخالفة الجنائية)؛ هل انتهكت الصحيفة، بنشر المعلومة، خصوصية أحد، أو حصلت عليها بارتكاب مخالفة جنائية (كالسرقة أو الرشوة)، أو هل أضر نشرها بسمعة صاحب الدعوى أو ألحق به أضراراً مادية أو عرّض سلامته للخطر، على سبيل المثال لا الحصر. رئيس الحكومة بدوره، في اعتذاره لرئيس البرلمان، لم يلق باللوم على الصحافة كمبرر إعلان السياسة الجديدة من مكتبه لا في البرلمان، لأن ذلك سيدخله في صدام لا تحمد عقباه مع السلطة الرابعة (وأمامنا مثال الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي فاته التعامل برفق حذر مع الصحافة فشنت عليه حملة تشويه الشخصية منذ أول يوم له في البيت الأبيض)؛ كما أن انتقاد الصحافة أو محاولة الضغط عليها لمعرفة مصدر تسريب الخبر يعني الخروج على تقاليد الديمقراطية والمساس بأهم مقدساتها، وهي حرية التعبير والنشر. هنا نجد اثنين من أعرق وأهم تقاليد الديمقراطية، ومكونات الدستور الفريد من نوعه، يصطدمان ويتناقضان في عقل رئيس الوزراء، فقبل التوبيخ صاغراً، ووعد بألا يكرر الأمر، وهو يعلم بعجزه عن حفظ الوعد في ظروف مشابهة.
الملحوظة الأخرى كانت أيضاً تتعلق بالصحافة والسياسة. رئيس الوزراء الأسبق والزعيم العمالي توني بلير، وكان أكثر زعماء الحزب نجاحاً، في نصف قرن، إذ أعيد انتخاب العمال تحت زعامته ثلاث مرات متعاقبة، التجأ للصحافة لنشر خطته للتعامل مع انتشار وباء «كورونا». بلير في السنوات العشر الأخيرة أسس معهداً للدراسات الاستراتيجية. وكان فريقه قد درس خطة لاستخدام طرق الفحص وعزل حاملي الفيروس، كوسيلة للحد من انتشار العدوى، من دون الاضطرار إلى إغلاق المدن ووسائل النشاط الاقتصادي. مقالة بلير نشرت يوم المساءلة الأسبوعية لرئيس الوزراء. زعيم المعارضة العمالية، السير كيير ستامر، وهو من التيار البليري، كان يمارس عمله في معارضة الحكومة، ومحاولة إحراج رئيس الحكومة، وجهز أسئلته الستة المعتادة. وتركز معظمها على تأخر الحكومة في فرض فترة العزل والإغلاق الجارية التي بدأت يوم الخميس. خطة بلير تروق لجونسون لأنها تحاول إنقاذ الاقتصاد بدلاً من إغلاق كامل، ولذا قذف بها في وجه زعيم المعارضة ستامر ناصحاً إياه أن يتعلم من سابق له وضع المصلحة القومية أولاً. ستارمر نفسه ظل يطالب بهذا الإغلاق، فكان عليه أن يصوت مع الحكومة التي يعارضها، ومن ثم أوقع نفسه في فخ جونسون الذي تمرد عليه نوابه، وصوتوا ضد حكومتهم. الأمر يتعلق بتعقيدات النظام البرلماني نفسه؛ فالنواب يُفترض أن يتبعوا تعليمات الحزب ويصوتوا ككتلة برلمانية واحدة. لكن هناك تناقضاً آخر، فكل نائب يمثل دائرة، وأحياناً تتعارض مصلحة الناخب الفرد مع السياسة العامة للحكومة، ومع الحزب. النواب الذين صوتوا ضد حكومتهم يدركون أيضاً أنهم موظفون عند ناخبيهم الذين رأوا في الإغلاق الكامل خراباً لنشاطهم الاقتصادي. الناخب لا يتسامح في مسألة كسب رزقه. وإذا لم يدافع النائب عن الناخب فسيصوت ضده في الانتخابات المقبلة، مما يحتمل فقدانه لوظيفته المدفوعة الأجر.