د. ياسر عبد العزيز
TT

الفستان العاري... وأولويات الجمهور

في الأسبوع الفائت، كان أحد الأخبار الأكثر بحثاً على محرك البحث «غوغل» في مصر، كما أفادت صحف موثوقة، يتعلق بالفستان العاري الذي ارتدته إحدى الممثلات على «السجادة الحمراء» في مهرجان الجونة السينمائي، الذي اختتم فعالياته مساء يوم الجمعة الماضي. وهو الفستان الذي تصدر «تريند تويتر» في الوقت ذاته بطبيعة الحال.
لا يمكن إغفال حجم الانتشار والأهمية اللذين اكتسبتهما صور تلك الفنانة في فضاء الأخبار، على مدى أسبوع من المفترض أنه حفل بالكثير من التطورات المهمة والجادة. ولا يمكن غضّ الطرف عن أن صورة هذا الفستان كانت أكثر ما أثار انطباعات القطاع الأوسع من المتابعين، لدرجة أنها غطّت على فعاليات المهرجان وتفاصيله، ولم تترك لها إلا النَّزر اليسير من حيّز الاهتمام العمومي.
لا أعرف ما الذي يفكر فيه المنظمون الآن؟ وهل عدّوا أن صورة الفنانة ذات الفستان العاري واللافت للنظر منحت المهرجان ألقاً وأهمية وانتشاراً؟ أم أنها سحبت الضوء عن هذا المحفل الفني وأجهضت خططهم التسويقية واختزلت مجمل الفعاليات، بما انطوت عليه من مخزون ثقافي وفني، في مجرد صورة فجّرت الجدل وأثارت مشاعر وتعليقات تراوحت ما بين السخرية والاستحسان والغضب؟
يسود جدل كبير لا ينقطع تقريباً في أوساط الباحثين حول مدى القدرة التأثيرية للإعلام. وقد وصل هذا الجدل إلى حد أن قطاعاً مؤثراً من المسؤولين والنخب والجمهور بات يعتقد أن المجتمعات والدول يمكن أن تُحكم عبر وسائل الإعلام.
تتباين المساحات التي يُظن أن الإعلام يشغلها في السيطرة على الخرائط الإدراكية للجمهور؛ فيرى البعض أن الإعلام سلاح خطير، يمكن حسم المعارك بواسطته، فيما يرى آخرون أن الإعلام أداة مساعدة لا يمكن أن تحقق أثراً إلا لو عملت عناصر أخرى بموازاتها وأدت أدوارها.
يتمحور هذا الجدل إذن حول تقدير مساحة الدور الذي يلعبه الإعلام، وما إذا كان هذا الدور يمكن أن يفتئت على بقية السلطات ويحل محلها؟ أم أنه دور يتسم بقدر واسع من الأهمية لسلطة من السلطات، دُرج على اعتبارها «السلطة الرابعة»؟ أم أنه مجرد أداة يمكن أن تسهم مع أدوات أخرى في تحقيق الأهداف العليا ضمن التخطيط والإدارة الاستراتيجيين؟
تفيد الدراسات الأكاديمية بأن الإعلام يلعب أدواره التأثيرية في تشكيل الرأي العام تجاه القضايا والعمليات، من خلال أربع عمليات رئيسية يقوم بها: أولاها هي عملية تشكيل إطار القضايا، وثانيتها عملية إرساء الأولويات، وثالثتها عملية بناء الصور الذهنية، ورابعتها عملية التأطير.
في عملية تشكيل إطار القضايا، قد تقوم وسائل الإعلام بتسليط الضوء على قضايا بعينها، وتحجبه عن قضايا أخرى، من دون النظر إلى مدى أهمية تلك القضايا في سلم أولويات الجمهور. ويعتقد باحثون إعلاميون أن إغفال الإعلام قضايا مهمة، أو منحها مساحات وأوقات عرض لا تتناسب مع مدى أهميتها المفترضة، يؤدي تلقائياً إلى تقليل الاهتمام بها من قطاعات الجمهور.
ومن ناحية أخرى، فإن وسائل الإعلام تعرض القضايا المختلفة على جمهورها بشكل مرتّب تبعاً لأهميتها. ووفق نظرية «تحديد الأولويات» (Agenda Setting)، فإن «ثمة علاقة إيجابية بين ما تلحّ عليه وسائل الإعلام في رسائلها، وبين ما يراه الجمهور مهماً»، ويرى بعض الباحثين أن تلك النقطة بالذات تمثل مكمن أهم تأثير لوسائل الاتصال؛ أي «مقدرتها على ترتيب أجندة الجمهور بخصوص القضايا والموضوعات المطروحة». ورغم بعض التشكيك في قدرة تلك النظرية على توضيح التأثير المباشر لوسائل الإعلام على «الخرائط الإدراكية والمعرفية واتجاهات الجمهور حيال القضايا محل الاهتمام»، فإن أحداً لا يدحض وجود روابط بين التعرض لوسائل الإعلام من جهة، واتجاهات الجمهور نحو قضايا معينة ومدى إدراكه لها من جهة أخرى».
ظل هذا التفسير منطقياً وشائعاً في عصر وسائل الإعلام الجماهيرية، وكان بمقدورنا أن نتّهم السلطة الاستراتيجية القائمة على إدارة المشهد الإعلامي بالتلاعب لتحقيق أغراضها عبر صياغات مُغرضة وغير موضوعية للأجندات، يتم تسليط الضوء فيها على قضايا معينة بغرض التحكم في اهتمامات الجمهور وترتيب أولوياته. لكن في عصر وسائط التواصل الاجتماعي، اختلس الجمهور دور «حارس البوابة» (Gate Keeper)، وبات في الموقع الذي يسمح له بالتحكم في إطار القضايا وإرساء الأجندة. وهو عندما حظي بهذه المكانة لم يكن أفضل من الساسة المغرضين ومالكي وسائل الإعلام ذوي المصالح المشبوهة، بل هو راح يُفرط في إرساء الأولويات الخاطئة والمثيرة للشفقة والاستياء.