علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

الخالدي وتلحوق وحمادة

وردت العبارة المنسوبة إلى رئيس الوزراء البريطاني غلادستون بصيغتها الشائعة والشهيرة في الكتب المنشورة باللغة العربية أول ما وردت في الطبعة الثالثة من ترجمة عمر فروخ لكتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق»، الصادرة في عام 1951، ثم وردت بصيغة مختلفة قليلاً في كتاب لهندي من أتباع المودودي كتبه باللغة العربية في 10 سبتمبر (أيلول) 1952، ونشره في آخر شهر من ذلك العالم، أو ربما في أول شهر من عام 1953، لكنه نسب العبارة إلى بريطاني آخر!
أحمد أمين في آخر كتاب صدر له، وهو كتاب «يوم الإسلام»، الذي إذا استندنا إلى تاريخ كتابته لمقدمة كتابه، فسيكون كتابه صادراً إما في الشهر الثاني أو الثالث من عام 1952، أورد العبارة على نحو مختصر، بوصفها خبراً وليس استشهاداً بمقولة، فهو في كتابه هذا قال: «وقال مستر غلادستون من مشاهير الإنجليز بوجوب إعدام القرآن وتطهير أوروبا من المسلمين».
هذا الخبر نقله أحمد أمين نصّاً من مقال لرشيد رضا عن التعصب، نشره في مجلته، مجلة «المنار»، بتاريخ 13/ 9/ 1898؛ فقد قال رشيد رضا في هذا المقال:
«بل لا يزال روح التعصب الذميم محركّاً لألسنتهم، ومالكاً أزمّة عامتهم وخاصتهم، وناهيك بعظيم إنجلترا وفقيدها المستر غلادستون (كتب رشيد رضا مقاله هذه بعد مضي ثلاثة أشهر وأربعين يوماً على وفاة غلادستون) وخطبه ضد الإسلام، وكلمتها الأولى في وجوب إعدام القرآن، وكلمتها الآخرة في وجوب تطهير أوروبا من المسلمين».
تحولت عبارة «إعدام القرآن» عند الإسلاميين العرب إلى تمزيقه وتمزيق آياته. ولها صيغتان؛ إحداهما، وهي تمزيق آيات القرآن، فيها حبكة قصصية. وقد أورد الدكتور حمزة بن قبلان المزيني هاتين الصيغتين في مقاله: «هل قالها غلادستون؟!».
أما عبارة «تطهير أوروبا من المسلمين»؛ فهي لا ترد عندهم سواء بغير تصرف أو بتصرف فيها.
نستخلص من الملحوظة الأخيرة أن كتاب أحمد أمين ومقال رشيد رضا هما مصدران للعبارة المنسوبة إلى غلادستون غير معروفين عندهم. أما تحول عبارة «إعدام القرآن» الواردة في هذين المصدرين إلى تمزيقه وتمزيق آياته؛ فإن تأملنا في صياغة الإسلاميين الأتراك للعبارة، سنلمس أن تحويلها عند الإسلاميين العرب يدنو من معنى صياغتهم لها.
بعض كتب سيد قطب المؤثرة، كــ«العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«في ظلال القرآن» و«معالم في الطريق»، تتوفر معلومات كثيرة عنها، لأن الدارسين من اتجاهات فكرية مختلفة سلطوا الضوء عليها بدرجة كافية. واللافت أن كتاب محمد أسد: «الإسلام على مفترق الطرق»، وهو من بواكير كتب الأصولية الإسلامية المحدثة في القرن الماضي لم يحظَ بشيء من هذا، رغم عظم أثره في العالم العربي وفي العالم الإسلامي.
لهذا سأقدم بعض المعلومات عن أثره وتأثيره على الإسلاميين الأصوليين. وقبلها سأقدم معلومات عن ملابسات ترجمته وعن الشخصيات التي لها صلة بمشروع ترجمته.
نعلم من مقدمة الدكتور مصطفى الخالدي لترجمة «الإسلام على مفترق الطرق» إلى اللغة العربية أنه هو الذي قرأ الكتاب بلغته الإنجليزية، فأعجب به. وتمنى أن يترجم إلى اللغة العربية. ونعلم منها أن أخوة له من لبنان شاركوه هذه الأمنية، بعدما حدثهم عن أهمية وضرورة ترجمته إلى اللغة العربية، خص بالذكر منهم الدكتور محمد أمين تلحوق، والسيد خليل واكد حمادة، لأنهما حاولا ترجمته، وبذلا فيه (كما قال) جهداً كبيراً. وما لم يقله إنهما لم ينجحا في مسعاهما.
ولأنهما لم ينجحا في هذا المسعى، فلقد طلب من صديقه الدكتور عمر فروخ أن يتولى مهمة ترجمة الكتاب؛ فترجمه بأحسن صورة، لأنه مترجم محترف وقدير وملم بمادة الكتاب.
هؤلاء الأربعة قبل ترجمة الكتاب وفي أثناء ترجمته وبعد ترجمته وقبل صدور الطبعة الثالثة كانوا لا يعلمون عن محمد أسد سوى ما كتبه عن نفسه في مقدمته لكتابه، من أنه صحافي نمساوي غادر بلاده عام 1922، ليتجول في أفريقيا وآسيا بصفته مراسلاً لبعض أمهات الصحف الأوروبية، وأنه إلى سنة صدور كتابه عام 1934، قضى كل أوقاته تقريباً في الشرق الإسلامي. وأنه اعتنق الإسلام عندما عاد إلى أوروبا مرة ثانية في عام 1926. وأنه قضى أكثر من خمس سنوات في الحجاز ونجد (وأكثر من ذلك في المدينة) ليطمئن قلبه بشيء من البيئة الأصلية للدين الذي قام النبي العربي بالدعوة إليه فيها، وأن اسمه الحالي محمد أسد، وأن اسمه السابق هو ليبولد فايس، كما هو مدون على غلاف كتابه.
وبما أن محمد أسد لم ينص في مقدمته لكتابه على ديانته الأصلية، وهي اليهودية؛ فهم كانوا يعتقدون أنه مسيحي نمساوي اعتنق الإسلام.
من المعلومات التي قدمها الدكتور مصطفى الخالدي في مقدمته، نعرف أنه هو سبب ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية. وهذا الذي يفسر لنا توليه هو (لا عمر فروخ) كتابة مقدمة الترجمة، ليثبّت حقه الأدبي.
الدكتور مصطفى الخالدي لبناني من أصل سوري، متخصص في جراحة التوليد والأمراض النسائية. له كتاب عنوانه «صحة الحامل»، صادر في عام 1928، وكتاب عنوانه «على عتبة الأمومة»، صادر في عام 1934، حرّره لغوياً فريد مدوّر. وله كتاب باللغة الإنجليزية عنوانه (Muslim Lebanon today) صادر عام 1953، ترجمه إلى اللغة العربية عام 1977 محمود الحوت بعنوان «حاضر لبنان المسلم».
عُرِف اسمه في العالم العربي وفي العالم الإسلامي عن طريق كتاب ذائع وشهير، متعدد الطبعات، أثار جلبة في لبنان، وعلى الأخص في الجامعة الأميركية، وقت صدوره. وهو كتاب «التبشير والاستعمار في البلاد العربية: عرض لجهود المبشرين التي ترمي إلى إخضاع الشرق للاستعمار الغربي»، الذي اشترك في تأليفه مع عمر فروخ، والصادر في طبعته الأولى عام 1953.
هذا الكتاب في عقود سالفة من الكتب الأساسية عند الإسلاميين في مختلف البلدان الإسلامية على اختلاف لغاتها.
عُرّف الخالدي في غلاف الكتاب الداخلي بأنه «رئيس مدرسة التمريض الوطنية في بيروت. أستاذ فن التوليد سابقاً في جامعة بيروت الأميركية. مؤلف كتاب (الحمل والولادة) وغيره».
الدكتور مصطفى الخالدي كان ناشطاً إسلامياً في المجال الاجتماعي منذ مقتبل شبابه (هو من مواليد عام 1895)، إلا أنه مع إنشاء الجماعة الإسلامية (فرع للإخوان المسلمين في لبنان) لم ينضم إليها، ولا أعلم إن كان عضواً في جماعة «عباد الرحمن» التي تأسست عام 1949، أم لا. وهذه الجماعة نشاطها الإسلامي مصبوغ بصبغة اجتماعية لا سياسية.
الخالدي متوفى عام 1978.
الدكتور محمد أمين تلحوق يقرب من الدكتور مصطفى الخالدي في السن فهو (بحسب ما يذكر لبيب ناصيف في مقال له عنه منشور في موقع تاريخ الحزب القومي الاجتماعي السوري) من مواليد عام 1896. ويذكر موقع تاريخ عائلة تلحوق أنه من مواليد عام 1898.
الدكتور محمد أمين تلحوق مثل الدكتور مصطفى الخالدي طبيب، وقد درس الطب (كما يقول ناصيف لبيب) في الجامعة الأميركية ببيروت، وتخرج فيها متخصصاً في الطب العام. ويقول موقع تاريخ عائلة تلحوق إنه في دراسته للطب تخرج في الجامعة الأهلية (!). وقد وضعتُ علامة التعجب بين قوسين، لأنه لا يوجد في لبنان في المنتصف الأول من القرن الماضي جامعة اسمها الجامعة الأهلية.
تحدد ابنته هدى، نقلاً عن مقال لبيب ناصيف، تاريخ انتمائه للحزب القومي السوري بعام 1935. وتحدثت عن نفسها بأنها «تثقفت حزبياً على يديه، أحضر الاجتماعات الحزبية، أستمع إلى المحاضرات، وأقرأ من كتب الحزب، وأتربّى على المناقبية القومية الاجتماعية». وتحدثت عن أخواتها فقالت: «أخذ على عاتقه تربيتهن وتثقيفهن عقائدياً، وكن يرافقن والدهن إلى الاجتماعات والمناسبات الحزبية». أي أن هدى وأخواتها كن رفيقات حزبيات لأبيهن.
وقد ذكر موقع تاريخ عائلة تلحوق أنه أنفق كل ثروته على الحزب.
يخبرنا لبيب ناصيف أنه بعد تخرجه في الجامعة الأميركية تنقّل ما بين العمل الخاص في لبنان، والالتحاق بالخدمات الطبية العسكرية في كل من السودان والأردن على التوالي، حيث تولى مسؤوليات قيادية رفيعة.
وعن صلة تلحوق بالثقافة الإسلامية المحدثة، يروي لبيب ناصيف عن زميله اللواء الأردني عامر خماش هذه الحكاية، وهي أنه «وردته رسالة في ذلك الحين من شقيقه الذي كان يدرس في كورنيل بأميركا، يقول فيها إن سيدة من أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة طلبت منه التعرف على مبادئ الدين الإسلامي، ويطلب مساعدة شقيقه في هذا الأمر؛ فحملت الرسالة إلى الدكتور تلحوق وتساءلت أمامه: كيف أتصرف والأمر يحتاج إلى عالم أزهري يتقن اللغة الإنجليزية جيداً؟ فرد عليّ الدكتور تلحوق، قائلاً: لا عليك، سأكتبها لك الليلة وأسلمها لك في الصباح، لكي تنقلها بخط يدك وترسلها إلى شقيقتك. وفي صباح اليوم التالي سلمني رسالة تضم صفحتين من القطع الكبير، تشرح مبادئ الدين الإسلامي واهتمامها بالإنسان والمجتمع، ونظرتها للمرأة من حيث ضمان كامل حقوقها الإنسانية».
أما السيد خليل واكد حمادة، فإنني لم أعثر على أي معلومة عنه. وأحدس أنه مثل الدكتور تلحوق درزي. أي أنه من عائلة حمادة الدرزية، وليس من عائلة حمادة الشيعية البقاعية. وهذه المعلومة يمكن أن يؤكدها أو يصححها مُفتٍ عائلي من الديار اللبنانية، ويتفضل علينا مشكوراً بمنحنا تعريفاً به يتضمن تحديد اتجاهه السياسي والفكري؛ فمن يدري، فقد يكون منتمياً للحزب القومي السوري؟!
عمر فروخ لم يكن مناوئاً للحزب القومي السوري بعد تطورات حصلت فيه. في الرسالة الثالثة عشرة التي كتبها مؤسس الحزب القومي السوري أنطون سعادة إلى حبيبته الاولى إدفيك جريديني شيبوب بتاريخ 14 يناير (كانون الثاني) 1938 يقول في مقطع منها: «ولما عدتُ إلى البيت وجدت الأستاذ مصطفى فروخ، الفنان الدّهان، وأخاه الدكتور عمر فروخ (هو قريبه وليس أخاه) القادم حديثاً من ألمانيا وشخصاً من عائلة العيتاني... وجلسنا نتحدث وأجيب عن أسئلة الدكتور فروخ عن الفكرة السورية والقومية السورية والعروبة وغير ذلك من الأحاديث والأسئلة». وللحديث بقية.