جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

لعبة الديمقراطية على الطريقة الروسية

«بوفاليخينو - Povalikhino» ليس اسماً للقاح جديد مضاد للفيروس الوبائي «كوفيد - 19»، كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، وليس، أيضاً، اسماً لوجبة طعام غريبة أو جديدة، كما قد يعتقد البعض الآخر، بل اسم لقرية روسية، تقع على بُعد 300 ميل شرق العاصمة موسكو، تُذكّر المرء بتلك القرى الروسية الفقيرة، التي يَرِد ذكرها عَرَضاً، في روايات الروائيين الروس، حيث برودة الطقس والفقر، وتناثر البيوت الصغيرة المصنوعة من الخشب، والطرقات غير المسفلتة، ومعدومة الإنارة، والمتجاهَلة كلّيةً في كتب أطالس العالم، على اختلافها. وما كنتُ شخصياً لأُبدي حرصاً على معرفة تلك القرية، أو حتى اهتماماً بما يدور في محدودية وانغلاق عالمها، لولا أنني، ذات صباح، خلال الأسبوع الماضي، تعثرت باسمها منشوراً في وسائل الإعلام.
وأن تتمكن قرية روسية صغيرة من الخروج من ضيق صدفتها، والتسلل علناً عبر الحدود، إلى رحابة العالم الخارجي ليكون اسمها ضمن عناوين صفحة أولى لصحيفة غربية عريقة وواسعة الانتشار، فهذا يجعل القارئ المتابع يتنبأ، بشكل ما، بطبيعة التقرير المنشور، آخذين في الاعتبار ومن خلال التجربة، نوعية العلاقة التي تأسست، عبر السنين، بين الصحافة الغربية وموسكو. ما حدث في تلك القرية الروسية النائية، هذه المرّة، تجاوز توقعات القرّاء في الغرب، والمسؤولين الروس قبلهم.
وباختصار غير مخلّ، خلال الانتخابات التي جرت بتلك القرية لمنصب العمادة، في الأيام الماضية، فازت عاملة نظافة، وخسر العمدة منصبه. يوجد مثلٌ إنجليزي مشهور يؤكد أن الشيطان يكمن في التفاصيل. والتفاصيل، لدى معرفتها، لا تنقصها غرابة أو طرافة. والحكاية من أولها، أن السيد العمدة لدى قرب موعد الانتخابات، رأى أنه من الأفضل ألا يكون المترشح الوحيد لها، حرصاً على الأمور الشكلية، في انتخابات يفترض أن تكون ديمقراطية، رغم أن نتيجتها معروفة سلفاً، كما هو الحال مع بقية الانتخابات في كل روسيا، ابتداءً من انتخاب رئيس الكرملين، وانتهاءً إلى انتخاب عمدة أصغر بلدية. ما يهمّ هو أن الشعب الروسي، بمرور الوقت، صار يعرف طبيعة اللعبة، وعلى وعي بالمصير الذي ينتهي إليه كل مترشح جاد، يقرر تحدي مرشح الحزب الحاكم. آخرهم كان في قرية روسية أخرى في سيبيريا اسمها «خابروفسك – Khabarovsk»، تمكن من هزيمة مرشح الحزب، فاقتيد مباشرةً إلى السجن بتهم ملفقة، وأُغلق ملفه للأبد. رغم ما أثاره ذلك التصرف البوليسي من حنق ومظاهرات غاضبة لدى السكان.
لعبة الديمقراطية الروسية سهلة، وفي متناول الأحزاب والحكام أينما كانوا، ولذلك انتشرت وتمددت في بقية البلدان، سواء التي كانت ضمن حدود الإمبراطورية السوفياتية سابقاً أو غيرها. وعلى سبيل المثال، ووفقاً لتقارير إعلامية، في انتخابات الرئاسة بجمهورية كازاخستان عام 2011، كان المترشح المنافس للرئيس من أنصاره. ولتلك الأسباب، لا أحد من سكان قرية بوفاليخينو، أو بقية المسؤولين بها، اختار التطوع للعب ذلك الدور. فما كان من السيد العمدة السابق إلا التوجه إلى عاملة النظافة بمكتبه طالباً منها الترشح، فقبلت المسكينة إرضاءً له، ولتقديم مساعدة وخدمةً لرئيسها، لن تكلفها سوى وضع اسمها على ورقة تصويت لا تساوي ثمن الحبر الذي طُبعت به. ما حدث بعد ذلك، استحقّ أن يكون حدثاً تحتفي به وسائل الإعلام في الغرب، وتفرد له الصفحات.
العمدة الجديد لقرية بوفاليخينو سيدة اسمها مارينا أودكودسكايا، وفي أول تصريح أدلت به لوسائل الإعلام أكدت أن الأولوية في برنامجها ستعطى لإنارة شوارع القرية وطرقاتها، واكتفت بذلك، لكونها محجورة صحّياً في بيتها، بسبب القيود التي فرضها انتشار الوباء الفيروسي. لكن نتيجة الانتخابات جاءت بمثابة رمية من دون رامٍ بالنسبة إلى موسكو، وللعبتها الديمقراطية، لأنها بشكل ما أثبتت أن الانتخابات تمت بطريقة ديمقراطية ونزيهة ومن دون تدخل الحكومة، وأن العمدة السابق قَبِل بالنتيجة، وسلّم السلطة سلمياً للعمدة المنتخب وفقاً للنظم واللوائح الديمقراطية المعمول بها. وبذلك، دخلت قرية بوفاليخينو فصلاً جديداً في تاريخها، تحت قيادة امرأة عاملة، اُختيرت ديمقراطياً، والأهم أنها ليست عضواً في حزب فلاديمير بوتين.
روسيا والديمقراطية، كما يؤكد التاريخ وتبرهن الممارسات اليومية، ليستا رفيقي طريق. وإن حدث والتقتا صدفة، كما تبيّن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، في بداية التسعينات من القرن الماضي، فذلك من سوء حظ الديمقراطية، ومن حُسن حظ القياصرة الجدد، الذين تربعوا على العروش في جمهورياته السابقة. وما حدث من تزوير في الانتخابات مؤخراً في جمهورية روسيا البيضاء، يثبت أن ما تركه حكم القياصرة، ومن بعده الحكم السوفياتي، في التراب الروسي، وفي العقول الروسية، ليس من السهل اقتلاعه خلال عقود زمنية قصيرة. وأن الطريق ما زال طويلاً وشاقاً أمام الديمقراطية كي تجد موطئ قدم لها، ليس فقط في روسيا، بل في مناطق وبلدان عديدة من العالم، يمكّنها من تثبيت جذورها وتعميقها في تربة الواقع. وإلى أن يحين ذلك الوقت، وتتوفر اللحظة التاريخية المناسبة، والظروف السياسية الملائمة، يمكن للعبة الديمقراطية الروسية، الاستمرار حالياً في مواصلة أداء أدوارها، من دون تردد.