إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

العيش في «القجغ»

يروى أن المهداوي، رئيس محكمة الثورة التي تأسست في العراق لمحاكمة رجال العهد الملكي، سأل أحد الشهود، حسب العادة، عن اسمه وعنوانه ومهنته. ولما وصل إلى العمر أجاب الشاهد: «عمري 3 أشهر، سيدي، من قيام الثورة وكل ما قبله غير محسوب». كان ذلك في عام 1958. وبعد ست سنوات غنت أم كلثوم في حديقة الأزبكية، من كلمات أحمد شفيق كامل: «اللي شفته قبل ما تشوفك عيني عمر ضايع يحسبوه إزاي عليّ».
لا أدري إن كانت هناك أعمار ضائعة، حقاً، خارج بلادنا. لكن يبدو أن كل البلاد تعيش اليوم في وقت مستقطع من «كورونا». ملايين المشاريع جرى تأجيلها. وأسفار لم تتم. وجنازات من دون مودعين. وحفلات زواج اقتصرت على أنفار. وبشرية قلقة مكممة تبتهل مع رجال الدين وتنتظر الفتوى الحاسمة من رجال العلم. يخشى المرء أن يمد أنفه خارج بيته لئلا يستنشق الـ«كوفيد». والشباب في البلاد السعيدة يأسفون لأن منع التجول الليلي حرمهم من المرقص والمشرب. يغضبون على الحكومات ويتهمونها بأنها «تسرق منهم شبابهم». ينسون أنها لم تقطع عنهم الأرزاق والعلاج المجاني. إنه «عمر مستقطع» وسيعيشون ليرقصوا في الوقت بدل الضائع.
تقول لي تلك السيدة الحكيمة إن أجيالاً من شعبنا عاشت حياتها «قجغ». وهي مفردة تركية شائعة بين العراقيين، تعني المواد المهربة. وكان أشهر أنواع التهريب، في الزمن الماضي، يتم للتبوغ والخمور. وفيما بعد شمل كل البضائع التي تعبر الحدود، في ليالٍ حالكة، ولا تمر على مأمور الضرائب. عطور. زيوت. أقمشة. قطع غيار للسيارات. مكسّرات. يعني «جرزات» بلهجتنا. وفي تلك الأيام البعيدة كانت أسواق الموصل عامرة بأنواع الجوز المحلي واللوز الوطني والحبة الخضراء والبطم والسسّي، لكن الفستق الممتاز يأتي تهريباً من إيران. ولا تسألني عن معنى البطم والسسّي، فهذان من المكسرات التي سقطت من المعاجم. وعشت لأرى بطماً يباع في أسواق بغداد مفلوعاً، أي مشقوقاً كاشفاً عن اللب ولا تحتاج لأن تفقد أسنانك في طقطقة قشرته.
زرع العراقيون التبوغ وصنعوا الخمور، منذ فجر الحضارة، ولم يتوقف «القجغ». احتسى المقتدرون الأنواع المستوردة وعاقرت الأكثرية المشروب المحلي. وتسرّبت أنواع رخيصة تسمى «القجغ». أي غير المرخصة. ومن تلك الأنواع «أبو الواوي» و«أبو كلبشة». يذهب الرجل لملاقاة أصحابه في المساء بعد أن يطمئن على «الربعية» في جيبه. يستوي في ذلك الأفندية ومرتدو الدشاديش. وبعد أن كان التهريب للفستق وصلنا مرحلة تهريب النفط. منح صدام أنصاره العرب والأجانب كوبونات النفط عندما شحت العملة الصعبة. قيل إنها وسيلة للتحايل على العقوبات الاقتصادية. وها هو النفط «القجغ» يعبر الحدود منذ سنوات من دون حسيب.
تروى عن نوري السعيد، أشهر رؤساء الوزارات في العهد الملكي، حوادث كثيرة. لا نعرف ما الصحيح وما المفبرك. كان عامل المطبعة محمود الجندي مسجوناً مع عدد من رفاقه بتهمة الشيوعية. خرج من السجن وجلس في المقهى فسمع من يقول إن نوري السعيد صادق في شبابه «القرم باريّة». وهذه لفظة تركية أخرى غير مهذبة. ونشر السامع الحكاية في الجريدة التي كان ينضد حروفها. وفي اليوم التالي أخذه رجال الشعبة الخاصة إلى نوري السعيد. سأله عن عمره فأجاب 20 سنة. قال له: «يعني أنت لم تكن قد جئت إلى الدنيا حين كنت أنا أصاحب الشواذ، شلون عرفت؟». أجاب العامل أنه سمعها في المقهى. ضحك الباشا وقال: «أكيد كنت سكراناً». وأعطاه ربع دينار لكي يشتري مشروباً صحيحاً ولا يشرب «القجغ» ويخربط.