ديفيد ليونهارت
TT

شهقة كيسنجر ومعركة الوحل

بينما يراقب العالم جولات الملاكمة داخل حلبة مغطاة بالوحل بين الرئيس الأميركي ترمب ومنافسه الديمقراطي بايدن، أطلق وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر صيحة نحو اتجاه آخر مختلف، وهو الصراع العالمي القادم بين الولايات المتحدة والصين.
هذه ليست المرة الأولى التي يطلق هذا المنظر السياسي الخبير هذه الشهقة، وعلينا أن نكون أكثر اهتماماً، لأنه يكررها مراراً من وقت طويل وهذه المرة يعيدها وهو بعمر 97 كطلقة تحذيرية أخيرة.
يقول كيسنجر إننا متجهون إلى حرب عالمية ثالثة، إذا لم يصل زعماء القوتين العظميين إلى اتفاق على قواعد جديدة تنقذنا من هذا المصير الحتمي. ويضيف أننا نعيش المرحلة نفسها التي سبقت الحرب العالمية الأولى.
الحديث عن نشوب حروب عالمية جديدة تحولت إلى تجارة رائجة ونبوءات متكررة لا يصدقها أحد، بعد أن انتهت آخر حرب عالمية قبل أكثر من 75 عاماً لتعيش البشرية أطول فترة سلام دون أن تشهد حروباً مفزعة تتسبب في قتل الملايين، كما حدث في الحربين العالميتين اللتين ذهب ضحيتهما أكثر من 90 مليون قتيل.
والحروب العالمية انتهت؛ ليس لأن البشر فقدوا رغبتهم في قتل بعضهم أو لافتقاد العالم للقادة المصابين بجنون العظمة، الساعين لبسط نفوذهم على أكبر رقعة جغرافية ممكنة، ولكن لأن هناك قوة عسكرية عظمى انتصرت وشكلت نظاماً دولياً جديداً قامت برعايته وحمايته، وألغت فرص نشوب أي مغامرات طائشة من هذا النوع؛ لأن النتائج ستكون محسومة. لجأ القادة المجانين في العقود السبعة الماضية للمؤامرات وإسقاط الطائرات وتمويل الجماعات الإرهابية، وليس لحروب واسعة يعرفون أنها ستنتهي سريعاً بتعليق رقابهم على المشانق.
ومن هنا نفهم مصدر قلق كيسنجر وتذكّره للمرحلة التي سبقت الحرب العالمية الأولى. تلك المرحلة شهدت انهيار الإمبراطورية البريطانية، وتراجع قوتها العسكرية، ما أتاح الفرصة للقوى الطامحة المتجاورة في أوروبا من الدخول في حروب طاحنة بين بعضها لمد نفوذها وفرض رؤيتها على العالم. ولَم يمض أكثر من 20 عاماً على نهاية الحرب العالمية الأولى إلا واندلعت الحرب العالمية الثانية وللسبب ذاته. غياب قوة عسكرية قادرة على ردع قائد مثل هتلر الطامح لتشكيل صورة العالم على صورة الآيديولوجية النازية (لنتذكر ما بين عامي 1850 و1945 دخلت فرنسا وألمانيا في ثلاث حروب: 1870 و1914 و1940، روسيا وألمانيا اشتبكتا في حربين طاحنتين. فرنسا وبريطانيا دخلتا في حرب مع ألمانيا). لقد كان درساً قاسيا تعلمت منه أوروبا وتدمقرطت بالكامل لأن فرص نشوب الحروب بين الدول الكبرى الديمقراطية نادرة الحدوث.
ولكن الخطر الآن بحسب كيسنجر في مكان آخر. في بلاد بعيدة طموحة وتزيد قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية بشكل مطّرد، لدرجة ستقوم عما قريب بتحدي النظام الحالي الذي لا يروق لها وحينها سيحصل الصدام. ولهذا هو يدعو لتفاهم بين القوى العظمى حتى لا نصل إلى هذا المصير المروع ولحرب عالمية ثالثة قد تكون أسوأ من الحربين السابقتين. نبرة اليأس واضحة في حديث كيسنجر حيث قال رغم كل شيء يبدو أنه لا يوجد أمل. الجواب الأمثل ليس لديه، ولكن عند أحد الرجلين المنغمسين حالياً بتلطيخ بعضهم بالوحل، ولكن بعد الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني).