قبل بضعة أيام، حضرت مناسبة اجتماعية شملت نخبة من أهل العلم والرأي، والمسؤولين، والمهتمين بالسياسة والاقتصاد، وتم التطرق إلى مسائل وطنية منها، على سبيل المثال حال سوق المال وسوق النِّفط، وغير ذلك من موضوعات هي اليوم حديثُ الساعة. كان الحديث في هذه الموضوعات شائقا خلص فيه الحضور إلى أن سوق النفط وسوق المال متشابهتان من حيث أن السوقين تحكمهما عوامل العرض والطلب، وأن ما يحصل من تذبذبات تبدو غير مبررة، أو إخلال غير طبيعي بالتوازن في أي من السوقين، إنما هو نتيجة تصرُّف أشخاص أو جهات تسعى لمصالح شخصية على حساب السوق، وهم من يُسمون بالمضاربين في السوق.
بدأت أتأمل حول ما دار في ذلك الحوار الثري والمفيد، وما يدور في الوسائل الإعلامية، داخل السعودية وخارجها، من تنظير صِرفٍ في هذه المسائل. وقد حز في نفسي سماع بعض الأصوات التي تنادي بقيام المملكة، بشكل خاص، ودول أوبك، بشكل عام، بتخفيض إنتاجها من النفط لحماية الأسعار من التدهور، كما يقولون.
عندما يطلق أشخاص، من خارج السعودية ومن خارج أوبك، مثل هذه النداءات فليس هذا مستغربا منهم، لأنهم إنما ينادون بخفض الإنتاج لغاية في نفس يعقوب. بمعنى أنهم يقومون بإحداث مثل هذه البلبلة لأنهم يسعون إلى مصالح ذاتية، لهم أو لبلدانهم، تتمثل في جني المكاسب والأرباح المالية أو السياسية على حساب الدول المنتجة؛ وأولاها المملكة.
ولكن؛ عندما نسمع مثل هذه المطالبات والنداءات من أشخاص من داخل المملكة؛ منهم من يدعي أنه اقتصادي، أو متخصص في أسواق النفط، ومنهم من هو من رجال الأعمال، الذين يزعمون، كذلك، معرفتهم بالسوق وما يؤثر فيها وما يجب القيام به من عمل لحماية الأسعار، وهم في الواقع لا يفقهون في السوق إلا قليلا، ولا يعرفون، حق المعرفة، العوامل التي تؤثر فيها، أقول: عندما نسمع مثل هذه النداءات من مثل هؤلاء، فإن الأمر مرفوضٌ تماما، ويجب على هؤلاء، لأسباب عديدة لا مجال للخوض فيها في هذه المقالة القصيرة، أن يمتنعوا عن التنظير والإفتاء في مسائل ليست لهم بها خبرة ولا معرفة، لا من قريب ولا من بعيد. وعليهم التوقف عن توجيه الاتهامات التي لا أساس لها، وإلقاء اللوم جزافا على القائمين، خير قيام، على السياسة النفطية، ومن ثم السياسة الاقتصادية في المملكة.
أرجو أن يكون مفهوما أنني لست هنا في وارد الحجر على الآراء والانتقادات، اتفقت معها أم اختلفت، ما دامت هذه الآراء والانتقادات نابعة من معرفةٍ حقيقية بالموضوع الذي تدور في فلكه، ومستندة إلى رؤية شموليةٍ غير محدودة الزاوية أو المدى الزمني، ومتوجهة إلى الإصلاح والبناء لا إلى تحقيق مآرب شخصية أيا كانت هذه المآرب. لكن السؤال الذي يلح عليّ، وألح في طلب إجابة عنه من أمثال المنتقدين الذين أشرت إليهم آنفا، هو: أين كنتم خلال السنوات الخمس عشرة أو العشرين أو الخمس والعشرين الماضية، عندما قادت السعودية العالم لتحقيق الاستقرار في السوق النفطية، بعد انقطاع إمدادات النفط من العراق والكويت في بداية التسعينات من القرن الماضي، وعند انهيار الأسعار في نهايات حقبة التسعينات؟! ما هو رأيكم في تلك الجهود المضنية التي جلبت الاستقرار، بالفعل، إلى أسواق النفط، عندما قامت المملكة بعمل كل ما هو مطلوب، وما هو متوقعٌ من دولة لها وزنها ومكانتها وسياساتها الثابتة والحكيمة، لخلق توازن في العرض والطلب؟ تلك السياسات والجهود التي بنيت على أسس موضوعية، لا على ردود فعل انفعالية، أو على مآرب شخصية، أقل ما يمكن أن يُقال عنها أنها محدودة النظرة، تلك السياسات والجهود التي بُنيت على دروس أنضجتها الخبرات السابقة، لتحقيق الاستقرار في السوق وتمكين العوامل الأساسية فيها؛ أي العرض والطلب، من أخذ مجراها الطبيعي، والتي أثمرت نجاح المملكة في تحقيق الاستقرار، بعيد المدى والمستدام، في السوق، والوصول بالأسعار إلى مستوياتٍ مجزية وعادلة للمنتج والمستهلك على حدٍّ سواء، بحيث شهد العالم، وسوقه النفطية، لأول مرة في تاريخ هذه الصناعة الحيوية، فترة ذهبية دامت لأكثر من خمسة عشر عاما، ليس للسعودية فحسب، وإنما لجميع المنتجين من خارج أوبك ومن داخلها، وللاقتصاد العالمي في شتى أنحاء الأرض وفي مختلف مجالاته.
مرة أخرى، أقول: أين كان هؤلاء المنظرون؟ وأين كانت آراؤهم وفتاواهم حين كان من الواجب الإشادة بسياسة المملكة الحكيمة، التي قادت العالم إلى بر النجاة؟ أنا شخصيا، وأعتقد أن القارئ الكريم يُشاركني الرأي، لم أسمع أحدا من هؤلاء يقول للسعوديين القائمين على سياسة النفط: «أحسنتم.. وشكرا جزيلا لكم!!». لم أسمع أحدا منهم يُثني عليهم لتبنيهم هذا الأسلوب الاحترافي المهني المدروس بعناية، والمبني على التخطيط السليم، والتطبيق الفاعل، والمتابعة الدؤوبة، والذي حظي، دائما، بدعم ومباركة القيادة الرشيدة، أيدها الله، والذي أدى، كذلك، إلى جني المليارات من الريالات لبلادنا الغالية من ثروة النفط، التي منَّ الباري علينا بها. هذه النعمة التي حولت المديونيات الحكومية إلى فائض هائل، وميزانية تضاعفت عشرات المرات، ومشروعات كبيرة وغير مسبوقة في كل مجال.. و.. و.. والحديث يطول في هذا الشأن، ولن أخوض فيه لأنه معلوم للجميع.
أيها المُنظرون بغير علم، أو بعلم قليل محدود، دعوا من تولوا مسؤولية ملف النفط، وصناعته وسوقه، الشائك المُعقد يعملوا بصمت، كما عملوا لسنوات عديدة ويتعاملون مع مُتغيرات السوق بنفس الحكمة والعلم والحصافة التي أثبتوا تمكنهم منها، وذلك ليُحققوا، بإذن الله، نفس النجاحات التي حققوها في الماضي، وأكثر. إن ما يحدث في السوق النفطية أمر متوقع، بشكل أو بآخر، وهو جزء من حركة السوق الطبيعية، إذ لا توجد سوق، نفطية أو مالية أو غيرهما، يمكن أن تستمر مزدهرةً، بالنسبة للمنتجين والبائعين، إلى الأبد، فلا بد من أن تواجه تغيرات يُسميها البعض «تصحيحية» وأسميها أنا «مَوجية»، وهذا ما نعيشه نحن اليوم في سوق النِّفط العالمية. والناجح الحقيقي هو من يتعامل مع هذه التغيرات الموجية مستفيدا من دروس الماضي، ومتفهما لأسس العرض والطلب التي تؤثر بقوة على السوق، وليس من يتعامل مع التغيرات بانفعالية فتكون النتيجة المؤسفة أن تجرفه أمواج السوق المتغيرة فيكون كالمُنبتِّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى!!
وختاما، أود أن أؤكد أن العوامل التي تؤثر في سوق النِّفط، وفي القرارات التي يجب أن يتخذها المتعاملون فيها، كثيرة جدا ومتنوعة الأسباب والتوجهات، وهي على جوانب مختلفة من الأهمية، وأغلب من نراهم يتفلسفون في شؤون النفط وسوقه هم ممن يصدق في حقهم قول الشاعر:
قل لمن يدعي في العلم معرفة
عرفت شيئا وغابت عنك أشياء
ولهذه الاعتبارات يتضح جليا صواب سياسة المملكة لحماية حصتها في السوق، لأن المملكة استثمرت، بلا حدود، في تطوير وتعزيز صناعتها النفطية، وفي توفير الطاقة الإنتاجية الفائضة التي أثبتت جدواها من خلال توفير الإمدادات اللازمة لسوق النفط العالمية عند حدوث أزمات غير متوقعة، مثل قيام حرب أو سقوط حكومة أو كوارث طبيعية، كما أنها عانت كثيرا ولسنوات طويلة من كونها هي المنتج الذي يضحي بتخفيض الإنتاج في سوق تغيرت موازينها كثيرا وبشكل جذري عندما كانت أوبك تنتج سبعين في المائة من الإنتاج العالمي، واليوم انخفضت نسبة إنتاج أعضائها إلى ثلاثين في المائة من الإنتاج العالمي، وعليه فقد بات من حق السعودية اليوم، بكل ما تحمله كلمة حق من معنى، أن تحمي مصالحها نظير تضحياتها على مر السنين، ونظير ما أظهرته ولا تزال تُظهره من حكمة في التعامل مع معطيات السوق، ووعي وفهم للصورة الاقتصادية الأوسع والأشمل التي تُمثل السوق النفطية جزءا جوهريا منها، والتي ترتكز على النفط كسلعة استراتيجية جوهرية.
* كاتب سعودي
8:2 دقيقه
TT
أيها المُنظِّرون.. ارفعوا وصايتكم عن سياسة السعودية النفطية!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة