سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

«نوبل» ليست لكم

مرة جديدة، فاجأت الأكاديمية السويدية الجميع، وخاصة أولئك الذين يعشقون التوقعات، وينشرون الأسماء الشهيرة، يوزعون عليها العلامات، والترجيحات، قبل كل إعلان عن جائزة نوبل للآداب، ويدّعون أنهم يعلمون، ما لا يمكن معرفته. فقد أثبتت لجان نوبل، بمرور السنوات، أنها جديرة بحفظ الأسرار، وإن أخفقت في نواحٍ أخرى، تستحق النقد. ومن لطيف ترجيحات «نوبل» أن كل أمة، تدسّ بأسماء كتّابها، وتضعهم على رأس اللائحة، فيما لا تزال اللجنة الموقرة مصرة على اعتبار اللغة الإنجليزية هي الأصل، تتبعها اللغات الأوروبية الأخرى، وكل ما عداها فرع، وهوامش. وهي أيضاً جائزة غربية، حتى النخاع، وثبت أن اختيار عربي مرة، أو أفريقي مرة أخرى، ليس إلا الاستثناء الذي يثبت هذه القاعدة الذهبية. وبالتالي فلا مفاجأة في اختيار الشاعرة الأميركية لويز غلوك للفوز بجائزة نوبل للآداب هذه السنة، مكافأة لها على «صوتها الشاعري المميز، الذي يُضفي بجماله طابعاً عالمياً على الوجود الفردي». وصحيح أيضاً أن شعرها يتميز بـ«الوضوح» وأنها شكلت لنفسها أساليب شعرية، تنقلت بينها، وبقيت أمينة لصوتها الداخلي، وأنها ركزت بشكل مؤثر على طفولتها وحياتها الأسرية التي شابها كثير من التعقيدات، بسبب مرضها واضطرابها النفسي أثناء المراهقة، ومن بعدها بسنوات. لكن بالتأكيد نوابغ الشعراء في هذا العالم ليسوا ندرة، وليسوا دائماً من البيض.
وسيمرّ وقت طويل على الأرجح، قبل أن يسمع القيّمون على الجائزة، نداءات تشبه تلك التي أطلقها الصحافي الأميركي بيتر ماس، قبل أيام، طالباً ممن يفوز أن يرفض الجائزة. وعدّد الكاتب عاهات كثيرة تعاني منها اللجنة، منها فضائح عام 2017. والحكم على زوج إحدى الأعضاء الـ18 بالاغتصاب الجنسي، ومن ثم اختيار الأديب النمساوي بيتر هندكه العالم الماضي، الذي على روعة أعماله، إلا أنه في الجزء الثاني من حياته وقع في فخ إنكار الإبادة الجماعية التي ارتكبها الصرب في حق المسلمين خلال حرب البوسنة. وزاد الطين بلة أن هندكه قرن الكتابة بالفعل، عندما حضر جنازة سلوبودان ميلوسيفيتش، وألقى كلمة تأبين في الزعيم السابق لصربيا، رغم أنه توفي أثناء محاكمته بارتكاب جرائم حرب.
والمآخذ على نوبل كثيرة، منها أنها منحازة لذكورية باتت غير محتملة؛ حيث لم تنل النساء من أصل 102 للآداب سوى 16 جائزة، كانت آخرهن من حظ الشاعرة لويز غلوك. ويذهب هذا الصحافي المتمرد إلى أبعد مما يطالب به آخرون، مطالباً أن يتوقف رهن التحكيم بفئة صغيرة من السويديين، وفتح الباب أمام أعضاء من جنسيات وإثنيات ولغات أخرى، كي يصبح الاختيار أكثر عالمية. وتنصف بقية اللغات.
لكن هذا سيبقى حلماً، والأكاديمية السويدية راهن كثيرون على أنها ستستمر في تعنتها، وتختار الروائي الفرنسي ميشال هولبيك، صاحب رواية «الاستسلام» المثير للجدل، والذي لا غبار على كتاباته الأدبية، تماماً كما هندكه، لكنه معروف بمواقفه المعادية للمسلمين، وبأنه جزء من جماعة تأجيج الإسلاموفوبيا، هؤلاء لم تصح توقعاتهم أيضاً.
فاللجنة لم تفعل، فهي لم تختر متعصباً، متشدداً، ولم تختر رجلاً أيضاً، ولم ترض مناهضي العنصرية باختيار كاتب أسود، بل التفتت هذه السنة إلى النساء، ومنحت 3 من جوائزها في العلوم لسيدات، وها هي الرابعة (الآداب) تذهب لامرأة، والإعلانات عن الجوائز مستمرة. وكانت «نوبل» عام 2009 قد منحت 5 نساء جوائزها، وتلك كانت سابقة، ولعلها تتكرر.
ومع وباء كورونا، واجتياز أميركا، واحدة من أصعب محنها المعاصرة، وكل أميركي يشعر بأن الانتخابات المقبلة، قد تكون مصيرية بالنسبة له، والقلق يسيطر على مجتمع لم يعتد هذا الكم من الانقسامات، يأتي فوز الشاعرة التي عانت من صعوبات شديدة في طفولتها، وتركيز كبير في كتابتها على الحميمات البيتية، والعلاقات العائلية، لتكون بمثابة هدية لأميركا، كانت تحتاجها.
أما المتباكون على نوبل من العرب، فربما يجدر التذكير أن نوبل ليست لكم، وأن إعطاءها لنجيب محفوظ قد لا يتكرر في القريب الآجل. فالصين أمة المليار ونيف لم تنلها إلا مرتين، مع جاو كسينجيان، ومن ثم مو يان، من بعده بسنوات. واليابان على أهميتها في العالم فازت بنوبل للآداب مرتين حين منحت لكبيرين شهيرين، هما ياسوناري كواباتا وكنزابورو أوي. ويكاد يكون وولي سوينكا من القارة السوداء استثناء، وحين فاز أوكتافيو باث من المكسيك، فلربما شفعت به الإسبانية، اللغة التي يكتب بها، أكثر من عبقريته الأدبية، تماماً مثل الكولومبي الكبير غابريل غارثيا ماركييز. فلا الترجمة هي التي تقرب الطامحين من العالمية، ولا تكرار الاسم المراد فوزه في الصحف والترويج له.
لا تزال الثقافة المعولمة لها مركزية غربية، وتغيير هذا الواقع لا يأتي من تبديل أعضاء لجنة نوبل، ورفض المليون دولار، وإعطاء درس في الأخلاق للسويديين، كما يقترح الصحافي الأميركي المتمرد. وإنما بأن تكون للغتك كيانها وأدبها وجوائزها التي تصون أسرارها، ويقرأ كتابها بلغتهم أولاً، ويتمكنون من تشكيل ضمير شعوبهم. أما انتظار التكريم الخارجي فهذا حقاً من بؤس الأيام على الأمة.