عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الثرثرة مصدر أخبار 32% من الناس

مؤسسة «غوغل» خصصت بليون دولار في ثلاث سنوات مقابل نقل محركات بحثها فقرات من الصحف، والتي سيكون باستطاعتها تصميم طريقة العرض، وتجديد الفقرات التي تنشرها مواقع أخرى وإضافة فيديوهات بلا تدخل من محرري هذه المواقع.
وحسب البيان الصحافي لـ«غوغل»، يوم الخميس، فإن مائتي صحيفة قومية ومحلية في المملكة المتحدة دخلت في اتفاق المؤسسة العملاقة. كما أن المبادرة التي بدأتها «غوغل» في ألمانيا الشهر الماضي، وانطلقت في البرازيل أول من أمس تضمنت كبريات الصحف الألمانية، وفي مقدمتها أكثر مطبوعتين توزيعاً، مجلة «دير شبيغل» ويومية «دي تزايت». وتجري «غوغل» مفاوضات مع اتحادات وجمعيات ناشري الصحافي في الهند، وبلجيكا وهولندا، ويتوقع أن يشملهم الاتفاق قبل نهاية العام.
الصحافيون من المدرسة الكلاسيكية، كحالنا من العواجيز، تلقوا الخبر بمزيج من التفاؤل الحذر، وقبول الأمر الواقع على مضض، والتوجس، وخيبة الأمل.
تفاؤل ببداية الوعي أن الصحافيين مثل أي عامل، يجب أن يتلقوا أجراً. الأمر الواقع أن «غوغل» ومحرك بحثها تتحكم في مدخل يصل منه الناس إلى الإنترنت ومنها إلى مواقع الصحف.
«ألفابيت»، الشركة القابضة لمؤسسة «غوغل»، والتي كانت قيمتها في مطلع العام في الولايات المتحدة تفوق تريليون دولار، بلغ مدخولها في الربع الثاني منه أبريل (نيسان) - يونيو (حزيران) 38 بليون و300 مليون دولار، أعلنت أن الاتفاقية لدفع حقوق إعادة النشر عبر محركات ومواقع «غوغل»، التي توصلت إليها مع الصحف البريطانية والهندية والأوروبية لم تبحثها بعد مع ناشري الصحف الأميركية.
وبجانب عدم الإعلان عن موعد بدء مباحثات مماثلة في أميركا، أكبر سوق صحف في العالم، فإن صمتها حول الأسباب كان وراء شعورنا بالتوجس، وخيبة الأمل.
فبليون دولار في ثلاثة أعوام، أي 330 مليون في العام، موزعة على صحف بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا، ناهيك عن الهند، ثاني أكبر بلد تعداداً بالسكان في العالم، تعني حفنة دولارات لكل صحيفة، وهو أمر مقلق بالنسبة لمستقبل الصحافة المكتوبة، وبالتالي الديمقراطية نفسها. فالصحافة المكتوبة هي أساس السلطة الرابعة، لأنها أكثر قدرة على الاستقلالية من قدرة شبكات التلفزيون، مما تجعلها ضرورية للتوازنات والضوابط في النظام الديمقراطي. والتحديات المالية بسبب انخفاض التوزيع نتيجة منافسة الوسائل الأخرى، هي ما يضعف الصحافة المكتوبة.
فقد انخفض متوسط الوقت الذي يقضيه الشخص في قراءة الصحيفة اليومية إلى ما دون 20 دقيقة، من 55 دقيقة قبل ربع قرن (رقم عدد السكان في سن شراء الصحف المطبوعة بالنسبة للموزع منها).
كانت المنافسة للصحف تأتي من الوسائل التقليدية كالإذاعة والتلفزيون، الذي أصبح المصدر الأول للأنباء اليومية لثلاثة أرباع البريطانيين، حسب مؤسسة ستاسيا للإحصائيات ؛ مقارنة بـ20 في المائة في 2007. وتضاعفت في 2010 (39 في المائة) مع الأخذ في الاعتبار أنه كان عام الانتخابات عندما استوردت شبكة «سكاي» من أميركا ظاهرة المناظرة التلفزيونية بين زعماء الأحزاب، ولا أعتقد أن ارتفاع النسبة في أغسطس (آب) هذا العام إلى 70 في المائة، سببه عزلة «كورونا»، فالنسبة كانت 69 في المائة في 2018.
في المرتبة الثانية تأتي الإنترنت بنسبة تتراوح ما بين 53 في المائة في آيرلندا الشمالية و67 في المائة في إنجلترا كمصدر للأخبار اليومية فقد ارتفعت نسبة مستخدميها من 9 في المائة من السكان في 1998 إلى 93 في المائة في 2019.
واليوم تنافس الشبكات التلفزيونية الصحف بإطلاقها مواقع مقروءة إلكترونية، والتي يحصل ثلثا سكان بريطانيا على الأخبار اليومية منها. أكثرها انتشاراً وقراءة موقع «بي بي سي»، وهي هيئة ممولة من الشعب عن طريق الرخصة السنوية التي تدفعها البيوت إجبارياً (غرامة أو سجن في حالة عدم الدفع)، بجانب أقل من 10 في المائة من التمويل من منحة الاتحاد الأوروبي وبيع المنتجات حول العالم، مما يجعل المنافسة غير عادلة. الصحف تعتمد على البيع للقراء، أو على الاشتراك الشهري على الإنترنت، وقيمة الاشتراك أقل من ثمن أربع نسخ مطبوعة. سعر الإعلان في الصحافة يحدده التوزيع، ولذا ففقدان القراء الذين يتجهون بالغريزة لموقع مجاني (لأنه مدعوم) كالـ«بي بي سي» يشكل تهديداً مادياً لا تتحمله الصحف المطبوعة، خاصة المحلية في الريف والمدن الصغرى المهددة بالإفلاس.
الصحافة اليومية تأتي في المركز الخامس كمصدر لحصول 34 في المائة من البريطانيين على الأخبار، وتنخفض إلى 10 في المائة في حالة المجلات والدوريات لتحتل المركز السابع.
الطريف أن المركز السادس لمعرفة الأخبار تحتله أقدم وكالة أنباء عرفها الإنسان، وهي «السماعي» من الجيران والأصدقاء في المقهى أو الحانة المحلية، كالوسيلة الأولية لـ32 في المائة من البريطانيين، ثم يتابعون تفاصيل الخبر في الوسائل الأخرى.
أما ربع البريطانيين الذين يتجهون إلى المواقع الإلكترونية، فخيارهم «فيسبوك» كمصدر ينزلون منه الفقرات من مواقع الصحف والمؤسسات الإذاعية، ويرتفع الرقم ليصل نصف مستهلكي المادة الإخبارية في بلدان الاتحاد الأوروبي؛ بينما يأتي «تويتر» ثم «يوتيوب» بعد «فيسبوك».
أكثر من 40 في المائة من البريطانيين يتجهون إلى المواقع المستقلة (غير المؤسسات الصحافية) مما يضعها في المركز الرابع مشاركة مع وسائل التواصل الاجتماعي بنسبة 39 في المائة - 46 في المائة (متوسط بلدان المملكة المتحدة الأربع).
الرقم يشمل Apps مثل «واتساب» و«ماسنجر» و«فيبر». «واتساب» وحده يفضله 51 في المائة من مستخدميه كوسيلة تواصل مغلقة. بعضها مجموعات بالغة التأثير؛ كمجموعتنا مثلاً من الصحافيين البرلمانيين، ونواب البرلمان من كل حزب. ومؤسسات صناعة الرأي العام مثل: «بي بي سي» والـ«تايمز» و«سي إن إن» لكل منها مجموعته الخاصة. والظاهرة قد تكون لها آثار سلبية على الديمقراطية، لأن الكسل المتفشي بين الأجيال الشابة من الصحافيين جعلهم يفكرون بنمط مشابه أو بعقلية القطيع بلا تنوع للمصادر.
وهو سبب آخر لعدم التفاؤل، إضافة إلى تصريح تجمع ناشري بلدان الاتحاد الأوروبي، وهو يساري النزعة، بأن «الضغوط من قوانين الاتحاد وتقنين الحكومات هي ما دفعت (غوغل) إلى اتخاذ الخطوة».
ورغم ترحيبنا بدفع المستهلك، أي قراء «غوغل»، ثمن البضاعة التي ينتجها الصحافيون، فإن تدخل الساسة والحكومات في السوق التجارية غالباً ما يؤدي إلى نتائج سلبية كعرقة التطور ويفرض قيود البيروقراطية، ناهيك عن جنوح الحكومات نحو الرقابة والحد من حرية النشر.
المقلق أن 69 في المائة من المشتغلين في العلاقات العامة والنشر، حسب آخر استطلاع، يفضلون تدخل الحكومات لتقنين نشاط مؤسسات كـ«غوغل»، بينما كانت في 1991 عند بداية الإنترنت في بريطانيا دون 10 في المائة وفضل 90 في المائة عدم تدخل الحكومة.