أخذ بعض المعلقين على الرئيس دونالد ترمب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن اللغة العدائية والاتهامات المتبادلة والمقاطعة المستمرة. أحد الكتاب سمّاها «مناظرة الألسن الممدودة» على طريقة الأطفال المتخاصمين لإغاظة بعضهم بعضاً. وطالبوا بنقاشات رئاسية رفيعة كما يليق بالمناسبة. ولكن هذه النقاشات الكلاسيكية انتهى زمنها، ويدرك الرجلان أننا نعيش في وقت مختلف ووسائط إعلامية مختلفة تفضل هذا النوع من الصدام الشرس السوقي. أضف إلى ذلك، أن الصراع بين ترمب وطائفة خصومه الديمقراطيين عميق ومرير. لقد حاولوا إزاحته وطرده من البيت الأبيض مرتين بتهمة الخيانة مع روسيا وأوكرانيا، ولاحقوا رجاله وسجنوهم، وتحولت وسائل الإعلام إلى ضباع لم تتوقف عن نهشه وأسرته بإيمان تام أنها مهمة وطنية وأخلاقية لإسقاطه مهما كلف الأمر.
من جانبه؛ هاجمهم بلغة حادة وسماهم المزيفين، والنائمين، والفاسدين، والجواسيس... وقائمة طويلة من الأوصاف المهينة. على خلفية هذه الأجواء المشحونة العدائية بين الطرفين، من غير المتوقع أن ينتظر المتابعون جدالات رصينة بأصوات خفيضة مؤدبة.
ولكن المهم بالنسبة لمنطقتنا ليست هذه المناظرات، ولكن السياسة الخارجية والقناعات داخل عقلَي ترمب وبايدن. ما يؤمن به أي رئيس أميركي هو أمر مهم لتأثيره على المسرح الدولي بأكمله. لقد قرر بوش الابن غزو العراق مؤمناً بأن دمقرطة العالم، خصوصاً المناطق المضطربة، هي الحل الأمثل لمشكلات الفقر والإرهاب والفوضى، وغيّر حتى هذا اليوم صورة الشرق الأوسط الذي نعرفه. أتى بعدها الرئيس أوباما مؤمناً بعقيدة مضادة تماماً... الانعزال والنفور من مبدأ قيادة أميركا للعالم، مؤمناً بالنظام متعدد الأقطاب بحيث لا تقع على أميركا وحدها مسؤولية حل مشكلات العالم. وبالنسبة للشرق الأوسط، أظهر تعاطفاً مكشوفاً مع الإيرانيين جعله يعقد معهم صفقة كبيرة ونرى تأثير كل ذلك الآن بميليشيات في العراق وسوريا واليمن... وغيرها. إن هذه مجرد قناعات، ولكن أهميتها أن يؤمن بها رئيس أقوى دولة في العالم، لأنه قادر على تحويلها لسياسات تغير التاريخ.
الشيء ذاته رأيناه مع الرئيس دونالد ترمب حيث عكس تماماً سياسات سلفه باراك أوباما. جدد الإيمان بأن أميركا هي القوة العظمى في العالم والقيادة لها، ولكنه دخل في خلافات عميقة مع القوى الأوروبية، خصوصاً فرنسا، لدرجة أن طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الطامح لزعامة عالمية بتكوين جيش أوروبي، من أجل أن يوقف الإهانات التي يوجهها لهم الرئيس الأميركي عندما طالبهم بدفع باقي نفقات «الناتو» المتأخرة. مزق الاتفاق النووي ووضعه في سلة المهملات، وفرض عقوبات غير مسبوقة على النظام الإيراني، ويؤمن فريقه بطريقة عقيدية بأن نظام الملالي هو مصدر الشر الذي يلف منطقة الشرق الأوسط والعالم.
من غير المتوقع أن ترتخي قبضة ترمب عن إيران إذا ما فاز في الانتخابات، وربما يبدو متحرراً أكثر من ضغوطات الشأن المحلي ويفكر في إرث خارجي آخر يسجل اسمه، وقد لمس بنفسه بريق الخلود الذي التمع على اسمه بعد عقد اتفاقيات السلام التاريخية بين الإمارات والبحرين وإسرائيل. قد يذهب ترمب بخطوة أخرى في الملف الإيراني إذا أكمل أربع سنوات أخرى. جماعات الإسلام السياسي جماعات فاشية تحركها عقائد متطرفة ومريضة، وهي من أكبر مصادر الشرور في المنطقة، والملاحظ أن أبرز قياداتها داخل الولايات المتحدة ناصبوا ترمب العداء، وتدور تسريبات متعمدة عن تصنيف هذه الجماعات منظمات إرهابية، وربما تتخذ الإدارة الحالية موقفاً أكثر تشدداً نحوها في العهد الجديد.
من جهته، فإن الدخول إلى عقل المرشح الديمقراطي جو بايدن ومعرفة الطريقة التي يفكر بها لم تعد مسألة صعبة. ليس انعزالياً، ولكنه مؤمن بمبدأ التحالفات لحل الإشكالات الكبرى، لذا سيعيد الدفء للعلاقات مع الأوروبيين، وسيتفق معهم على ملفات إيران وتركيا (ولهذا اتخذ موقفاً حازماً من الرئيس التركي إردوغان بسبب صدامه العلني مع حلفائه من القوى الأوروبية) والصين... وغيرها. الرئيس بايدن رجل المؤسسة الديمقراطية سيكون له نهج مختلف، وسيُدخل البيت الأبيض عقولاً مختلفة عن بومبيو وهوك وكوشنر ممن لعبوا دوراً محورياً في تشكيل سياسات الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط.
المناظرات الرئاسية عروض للمتعة وأشبه بجولات المصارعة تحرك لدى المشاهدين الغرائز البدائية للنصر المظفر والهزيمة الساحقة، ولكن المهم هو الرؤى والقناعات العميقة للمتنافسين حول الحي المضطرب الذي نسكن فيه.
7:44 دقيقه
TT
مناظرة الألسن الممدودة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة