أندرياس كلوث
TT

إردوغان ولوكاشينكو والسخرية من الاتحاد الأوروبي

انظروا إلى الاتحاد الأوروبي العظيم، الذي يحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث الثقل والزخم الاقتصادي على مستوى العالم. ثم انظروا مرة أخرى إلى التقزم الشديد الذي يعاني منه الاتحاد الأوروبي نفسه في الحلبة الدبلوماسية العالمية. فهل من المستغرب أن الحكام المستبدين، وأصحاب النعرات القومية في داخل أوروبا وخارجها، وممارسي سياسات الأمر الواقع بأسرهم، لا يأخذون الاتحاد الأوروبي على محمل الجدية ما لم تكن المسألة تتعلق بالتجارة؟
إن من أكثر الحكام استبداداً في العالم اليوم هما رئيسا تركيا وروسيا البيضاء اللذان يسخران أشد السخرية من الاتحاد الأوروبي، وكل منهما يسبب القدر الذي يستطيعه من المتاعب لنفسه ولجيرانه. وكان من المفترض بالاتحاد الأوروبي أن يصدر قراره بفرض حزمة من العقوبات على ألكسندر لوكاشينكو رئيس روسيا البيضاء بسبب سلسلة التلاعبات الفجة والصارخة التي سجلت في الانتخابات الأخيرة التي شهدها شهر أغسطس (آب) الماضي، وما تلاها من عمليات قمع وإخماد أصوات المحتجين في طول بلاده وعرضها. وبدلاً من ذلك، لم تحرك بروكسل ساكناً البتة. وإن كان يبدو الأمر مثيرا للحيرة لدى البعض، فلا بد من التوجه بالسؤال إلى ثالث أصغر عضو في الكتلة الأوروبية العظيمة من حيث عدد السكان، ألا وهي: قبرص.
فلقد صوتت الدولة الجزيرة الصغيرة ضد مشروع قرار العقوبات الأوروبية ضد روسيا البيضاء مستعينة في ذلك بحق النقض (الفيتو) تماماً كما يحق لأي دولة أخرى من دول الكتلة الأوروبية، وذلك لأن الاتحاد الأوروبي ما يزال يتطلب بلوغ حد الإجماع على كافة القرارات ذات الصلة بالسياسات الخارجية. وكان هذا أحد العوامل، بين العديد من العوامل الأخرى، التي قلمت أظافر – بل وأنياب – السياسات الأوروبية الخارجية على مدار السنوات الماضية. وكانت الصين -على سبيل المثال وليس الحصر- من البلدان التي تنزع في كثير من الأحيان إلى استمالة، وربما شراء، دولة أو أكثر من الدول الصغيرة بوعود الاستثمارات الهائلة، والإعانات المالية السخية في مقابل الحصول على حق النقض (الفيتو) ضد الانتقادات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان في الصين.
ولكن، لماذا تحاول الحكومة القبرصية الحيلولة دون فرض العقوبات الاقتصادية على الرئيس ألكسندر لوكاشينكو وحكومته المستبدة في روسيا البيضاء؟ أليست الحكومة القبرصية نفسها غاضبة للغاية من عمليات القمع والإخماد الوحشية التي يمارسها هذا ضد المتظاهرين السلميين من أبناء شعبه، وأغلبهم من النساء؟ هي كذلك بكل تأكيد. ولكن، كما هو معتاد في أغلب مجريات شؤون الاتحاد الأوروبي، تركز الحكومة القبرصية جل اهتمامها للعناية بقضية صراع مختلفة تماماً، وهي تتمثل في التوترات المتصاعدة من جانب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في مياهها الإقليمية.
ومنذ سنوات طويلة عانى سكان الجانب اليوناني من الجزيرة القبرصية مشاكل جمة ومستمرة من قبل الحكومة التركية، التي غزت بقواتها المسلحة الجزيرة في عام 1974 كي تساعد في نهاية المطاف على إنشاء جمهورية تركية صغيرة ومنافسة في القطاع الشمالي من الجزيرة، تلك التي لا تعترف بشرعيتها إلا الحكومة التركية فقط. وجاءت اكتشافات الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط لتزيد من حدة التوترات والعداوات لمستويات خطيرة عن ذي قبل، ذلك لأن كافة القوى المجاورة لهذه المنطقة منخرطة راهناً في نزاع مستمر حول ترسيم الحدود البحرية السيادية فضلاً عن حقوق الحفر والتنقيب عن الغاز الطبيعي.
وفي شهر أغسطس الماضي، وفي ظل افتقار واضح للكياسة السياسية أو براعة التخطيط، أرسل الرئيس التركي سفينة التنقيب عن الغاز الطبيعي تصاحبها سفن عسكرية للحماية إلى المياه المتنازع عليها بين الحكومتين التركية والقبرصية، الأمر الذي أدى إلى اعتراض قوي اللهجة واستهجان شديد من قبل الحكومتين اليونانية والقبرصية وغيرهما من البلدان المعنية، وأسفر أيضاً عن تدخل من جانب الحكومة الفرنسية تمثل في إرسال فرقاطة حربية رفقة طائرتين مقاتلتين حديثتين إلى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، في بادرة سياسية وعسكرية تبعث بإشارات لا تحتمل اللبس أو الغموض.
غير أن الحكومة الألمانية، التي تتولى في الآونة الراهنة الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، وغيرها من الدول الأعضاء الأخرى في الكتلة الأوروبية لا تعتزم التسرع في فرص العقوبات الإضافية ضد الحكومة التركية. بل إنهم يريدون منح جولات المفاوضات السياسية فرصتها ومجالها عوضاً عن ذلك. ومرجع ذلك أن الاتحاد الأوروبي والحكومة التركية ينبغي عليهما اللجوء إلى الحوار والمحادثات بشأن العديد من النزاعات القائمة في وقت واحد. وتشتمل مثل هذه المفاوضات على أساليب معاملة اللاجئين، تلك الأداة التي طالما يلجأ إليها الرئيس التركي بين الفينة والأخرى في الضغط على إرادة الاتحاد الأوروبي في سعادة وجزل بالغين. ومن شأن تركيا وتصرفاتها الرعناء أن تكون تيمة المناقشات والمداولات الرئيسية خلال قمة الاتحاد الأوروبي المقبلة.
تخشى الحكومة القبرصية من حالة التراخي والتردد التي تلازم السياسات الألمانية الخارجية، ناهيكم عن سياسات الاتحاد الأوروبي المماثلة، فيما يتصل بتدابير الصرامة والحسم الواجب اعتمادها إزاء الحكومة التركية وتصرفات رئيسها إردوغان. ومن ثم لجأت الحكومة القبرصية إلى معامل القوة الوحيد الذي تملكه دبلوماسياً ورفضت الموافقة على حزمة العقوبات الأوروبية ضد حكومة روسيا البيضاء حتى يعزم الاتحاد الأوروبي أمره ويتخذ إجراءات جادة مماثلة ضد الحكومة التركية.
ومن المفهوم بصورة كافية أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تملك ملفات مختلفة من المصالح بالحديث عن السياسة الخارجية لكل منها، وهي في غالب الأمر ما تستند إلى ركائز الموقع الجغرافي، والعلاقات التاريخية، والهوية الوطنية كما هو الحال في المسألة القبرصية. غير أن الأمر كان صحيحاً كذلك في مجال السياسات التجارية، التي لا تتسق فيها أبداً مصالح المزارعين في فرنسا مع مصالح صناع السيارات في ألمانيا، على سبيل المثال، إذ أنها أبعد ما تكون عن التوافق. ورغم ذلك، فقد ساد إجماع الآراء في خاتمة المطاف على أن الاتحاد الأوروبي هو أقوى مكاناً وأرسخ قدما عندما يعتزم التفاوض بشأن مسألة معينة ككتلة تجارية موحدة، حتى وإن كان ذلك يعني عدم استيفاء المصالح الوطنية لكل دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد على نصيبها المفروض من الأولوية والأهمية.
لذلك، ينبغي أن تترسخ أواصر الإجماع المماثل في السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي كما هو الحال في المفاوضات التجارية. وبعد كل شيء، تماماً كما استطاعت قبرص الصغيرة الفوز بتلك الجولة يمكن لبلدان أوروبية صغيرة أخرى – من شاكلة بولندا أو ليتوانيا – أن ترد الجميل في أوقات لاحقة عن طريق منع فرض العقوبات الأوروبية على الحكومة التركية، ما لم تتراجع الحكومة القبرصية عن حق النقض (الفيتو) المتخذ بشأن روسيا البيضاء. كما يمكن للحكومتين الفرنسية أو الإيطالية الاستعانة بحق النقض (الفيتو) فيما يتعلق بمصالح البلدين في الأزمة الليبية القائمة، سيما وأنهما كانتا على طرفي النقيض في أول الأمر بشأن الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا. ومن شأن العديد من البلدان الأوروبية الأخرى الحيلولة دون اتخاذ أي مبادرات سياسية ذات مغزى حتى تعزم الحكومة الألمانية أمرها، بخصوص خط أنابيب الغاز المثير للجدل الأوروبي الكبير بين روسيا وألمانيا. وطالما أنه من حق أي جهة أن تمنع قرار الأغلبية بحق النقض (الفيتو) فلن ينال الجميع سوى الخسارة في نهاية المطاف.
لا بد أيها السادة من وقفة جادة في وجه هذا التخبط الشديد، ويكمن الحل – كما طرحته ودافعت عنه السيدة أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية في التزام حالة الاتحاد المسوغة لتصويت الأغلبية المؤهل لاتخاذ القرار. ويعني أن تقوم الدول الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي بفرض العقوبات الموحدة أو إصدار البيانات الموحدة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان شريطة تأييد نسبة 55 في المائة من الدول الأعضاء لمثل تلك القرارات، وهي الدول التي تشكل فيما بينها نسبة 65 في المائة على الأقل من إجمالي سكان الاتحاد الأوروبي.
ومن شأن التصويت بالأغلبية أن يوافق كافة الدول الأعضاء في كافة الأوقات. وهو السبيل الوحيد في نفس الوقت لمنح الاتحاد الأوروبي قوة الحديث بصوت واحد وكلمة واحدة في مجريات السياسات الخارجية. وفي ظل العالم المتوتر للغاية من الناحية الجيوسياسية، فإن الاتحاد الأوروبي في حاجة ماسة إلى إنصات العالم إلى كلمته على الإطلاق، تماما كما أدركنا ذلك أخيراً في خضم تعاملات الاتحاد الأوروبي مع الصين. إن التخلي طوعاً عن شرط إجماع آراء كافة الأعضاء في شؤون السياسات الخارجية بالاتحاد الأوروبي هي فكرة تتسم بالجدية وفي أوانها المناسب.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»