زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

القومية والوحدة والعروبة... ليست الأكثر إلحاحاً!

العروبة هي دعوة فكرية وثقافية، بينما الوحدة العربية هي دعوة حركية وسياسية. إذن الانتماء إلى العروبة ينطلق من الوجدان وليس الإكراه، بينما الوحدة العربية تعبر عن مصدر إلزام وكيان سياسي تفرضه القوة والمصالح المشتركة.
العروبة هي جزء من سلسلة لا تتعارض أو تلغي الرابطة القبلية أو الوطنية. هي كانت موجودة ثقافةً ولغةً قبل ظهور الإسلام، ثم تحولت إلى حضارة وهوية انتماء من خلاله وبعده. في حين أن القومية العربية تعني العرق العربي، وهذا سر جاذبيتها مع أن لدينا مواطنين في عالمنا العربي ليسوا عرباً، بل بربر وكرد وتركمان يحملون جنسية دولهم العربية، وكانت قد تشكلت مفهوماً مع نهايات القرن التاسع عشر، وهدفها آنذاك نبيل بتمجيد العرب ووحدتهم، إلا أنها سقطت في الفخ وفشلت بسبب استغلالها وتوظيفها سياسياً.
مضمون القومية لا يعكس بدقة معنى العروبة، فالقومية السورية مثلاً ترتكز على الحيز العقدي، في حين أن «القومية الكردية» أو «البربرية» تستند إلى المرجعية العرقية. المدلول الفكري لكل منهما يكشف عن خلفية كل مصطلح. رابطة العرق محبذة عندما تعبر عن ثقافة وانتماء (عروبة)، لكنها لا تلقى قبولاً عندما يتم تسييسها واستغلالها من منظور عصبوي وشوفيني (قومية).
الوعي بأهمية الوحدة العربية يعتبر حديثاً مع سقوط الدولة العثمانية والغزو الخارجي ممثلاً بحملة نابليون. تأسيس الفكرة القومية، كما يقول شمس الدين الكيلاني، جاء من جمال الدين الأفغاني الذي سخر من فكرة تتريك العرب وقتها، وحذا محمد عبده حذو أستاذه، مؤكداً هوية مصر العربية، ثم جاء محمد رشيد رضا، تلميذ محمد عبده، الذي التحم بالقضية العربية، وكذلك عبد الرحمن الكواكبي الذي أكد في «طبائع الاستبداد» ضرورة استرجاع دور العرب الريادي.
الجيل الثاني الذي مثّله ساطع الحصري رأى الوحدة العربية في جانب المنفعة أكثر من جانبها العاطفي، واضعاً لها ثلاثة أركان لتقوم من خلالها دولة قومية تتكون من خدمة عسكرية ومجالس تمثيلية ونظام تربوي. الكواكبي والحصري حاولا تأصيل فكرة العروبة النهضوية في مواجهة العثمنة والاستبداد، بينما ركز أبو الحسن المسعودي على البعد الجغرافي. وفي ثلاثينات القرن الماضي جاء الجيل الثالث للقوميين العرب يتقدمهم ميشيل عفلق الذي كان يرى أن الخلل في موضوع الأمة وليس الدولة.
من يتحمس للقومية تجد خطابه خليطاً من التشنج والاندفاع من دون فهم لخلفياتها وسياقاتها التاريخية؛ ولذلك هو مفهوم ملتبس في تاريخنا المعاصر؛ كون الحركات السياسية استغلته لتحقيق أجندتها.
اتفاقية سايكس - بيكو، جزّأت العرب في القرن الماضي إلى أراضٍ مكبلة بقيود وثقافات محلية، ناهيك عن الدخول في مرحلة الاستعمار، وخرج علينا بعض القومجية العرب الذين ما انفكوا يبررون فشلها المتكرر، بإلقاء اللوم على الآخرين مع أن الإخفاق الذي ابتلي به العرب هم من صنعوا أسبابه، غير غافلين مساهمات الفعل الخارجي التي كانت ثانوية.
عالمنا العربي الذي نراه اليوم بدأت معاناته ما بعد عام 1967، وخلال معظم النصف الثاني من القرن العشرين، ليدخل بعد ذلك في حالة تهلهل وتصدع بدليل تهاوي بعض الدول وصُنفت بعضها بالدولة الفاشلة. الشعوب العربية خلال سبعين سنة لم تعد تتحمس لأي وحدة أو ارتباط آيديولوجي رغم جاذبيتهما، فقد جاءت كل الشعارات من أجل الإمساك بالسلطة. من عاصر تلك الآيديولوجيات يجد أن طروحاتهم كرّست السلطوية وحكم الفرد، بدءاً بقومية عبد الناصر، ومروراً بأفعال حزب البعث الدموية في العراق وسوريا عوضاً عن شعار الأمة الخالدة الذي دُفن في مهده، ومروراً بالشيوعية وانتهاء بالمشروع الإسلاموي الذي كرّسته الجماعات المتطرفة.
هذا الإخفاق بنيوي بلا شك. المذهبية والطائفية والعنصرية والقبلية أمراض وعلل استشرت، وما زالت تنهش الجسد العربي ولن تجدي نفعاً الحكومات التي تفشل في سياساتها العامة من إلقاء اللائمة على مشجب المؤامرة. هناك أمور وقضايا وهموم تشغل الشارع العربي أكثر بكثير من هكذا أقوال وأسطوانات مشروخة ومقولات بطولية واستهلاكية. لغة اليوم تقول إن المصالح أهم من العاطفة والوجدان، وبالتالي كل دولة لها الحق في أن تتخذ ما تراه مناسباً بقراراتها السيادية وبكل استقلالية ما دام فيها مصلحة لها ولشعبها. استغفال الشعوب العربية بالحماسة والانفعال والضجيج والأقوال وكذبة وحدة المصير أثبتت عدم جدواها؛ فالناس لا يُهمها سوى السلام والأمان ولقمة العيش، وغير ذلك مضيعة للوقت وخارج دائرة اهتماماتهم. الشعوب سئمت خطابات الوحدة الحالمة والعناوين الجوفاء والشعارات الفارغة والمزايدات الرنانة، وتجدها أساليب تسوقهم للجهل والسذاجة والضياع. ولذا؛ لا يوجد أفضل من الاعتماد على النفس، أو كما قال إمامنا الشافعي ما حك جلدك مثل ظفرك، فتولّ أنت جميع أمرك.
العوائق التي كانت تحول بالأمس دون إرساء مشروعات الإصلاح في دولنا العربية لم تعد تجد اليوم ما يبررها؛ ولذا الخروج من هذا النفق المظلم يكون عبر التفكير خارج الصندوق والبدء بعملية إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي، وهذا ما يهم حقيقة وليس الارتهان إلى عنتريات ليس فيها عنترة، وشعارات لم تعد تُغني ولا تُسمن من جوع.