جون أوثرز
كاتب من خدمة «بلومبرغ»
TT

مغامرة أسواق العملة مع «بريكست»

ربما جاء عودة موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو «بريكست» ليحتل عناوين الصحف الرئيسية كمؤشر إلى أن الحياة قد عادت إلى طبيعتها بعد انحسار الوباء، وأن الساسة يشعرون أن لديهم رخصة الآن لإعادة تلك العناوين إلى الواجهة. وفي الوقت الحالي، يراهن السوق على أن تحديد المواقف الذي يقوم به رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون لا يحتاج إلا أن تؤخذ على محمل الجد.
أصدرت حكومة جونسون تشريعاً الأسبوع الحالي، من شأنه أن يتحول فعلياً إلى قانون بريطاني ينكر كثيراً من تفاصيل الصفقة التي توصلت إليها الحكومة مع الاتحاد الأوروبي العام الماضي بشأن طريقة معاملة الحدود الفاصلة بين آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كان قرار جونسون التنازل عن الأرض بشأن هذه القضية في اجتماع مع رئيس الوزراء الآيرلندي ليو فارادكار في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي هو الذي مكّن من التوصل إلى تسوية تفاوضية. فمن دون إفساح المجال لآيرلندا الشمالية كانت المملكة المتحدة ستخرج من الاتحاد الأوروبي من «دون اتفاق»، وهو ما يخشاه كثيرون.
الآن لا يوجد اتفاق يطل برأسه القبيح مرة أخرى، ويتعين على المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي التفاوض بشأن إبرام معاهدة تجارية جديدة بحلول نهاية العام الحالي ليحل محل المعاهدة التي كانت قائمة عندما كانت بريطانيا عضواً في الاتحاد. فبدون اتفاق كانت المملكة المتحدة ستعود إلى الشروط الأساسية لمنظمة التجارة العالمية، ما يعني خسارة فادحة في القدرة التنافسية. ويمثل الاتحاد الأوروبي حصة أكبر بكثير من صادرات المملكة المتحدة مقارنة بالعكس، لذلك يبدو أن لديه نفوذاً تفاوضياً أكبر. ومع ذلك، يحدد جونسون يوم 15 أكتوبر موعداً نهائياً للتوصل إلى اتفاق، بينما يعد أيضاً على ما يبدو بتمزيق الاتفاق الأخير.
لا تزال عمليات البيع الحادة التي بدأت الأسبوع الحالي تجعل الجنيه الإسترليني أعلى قليلاً من مستوى ما قبل الدخول في عمق الغابة مقابل اليورو، ولا يزال قريباً من أعلى مستوياته خلال السنوات الثلاث الماضية مقابل الدولار. ويُظهر ضعف الجنيه مقابل اليورو أن القلق يتزايد، لكن من السهل أن ينخفض أكثر أمام كلتا العملتين.
السبب في ذلك يرجع إلى أن جونسون قد يعني هذا في الواقع. فقد كشف روبرت بيستون في قناة «آي تي في نيوز» البريطانية أن جونسون وفريقه يعتقدون حقاً أن مزايا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بدون صفقة» ستفوق العيوب، إذ إن العقبة الحاسمة لا تتعلق بالتجارة في حد ذاتها، بل بدعم الدولة، وإلى أي مدى يمكن للحكومات الفردية دعم الشركات والصناعات؛ حيث يمكن لمثل هذا الدعم أن يقلب موازين المنافسة التجارية.
وفقاً لبيستون، المعروف بقربة من دومينيك كامينغز، مستشار جونسون، فإن رئاسة الوزراء في «داونينغ ستريت» يخالجها شعور مختلف حيال ذلك الآن، إذ يعتقد فريق «جونسون - كامينغز» أنه يجب أن تكون لديه حرية التصرف «للاستثمار من دون قيود في التكنولوجيا المتقدمة والرقمية والذكاء الصناعي وسلسلة كاملة لما يسمى الثورة الصناعية الرابعة». ويصف بيستون الاقتباس التالي باعتباره مقالة يؤمن بها كامينغز: «البلدان التي تأخرت في الانضمام إلى ركب التصنيع كانت مملوكة أو مجبرة من قبل القدامى. سيحدث الشيء نفسه للبلدان التي ليست لديها شركات تكنولوجية بقيمة تريليون دولار خلال الـ20 عاماً المقبلة».
بقدر ما يتعلق الأمر بكامينغز وجونسون، فإن الضربة الاقتصادية الناجمة عن خرق الشروط التجارية مع الاتحاد الأوروبي ستكون ثمناً يستحق الدفع: «هم يرون أنهم يسعون إلى ما يرون أنه حريتهم المطلقة والثمينة في توجيه موارد الدولة إلى القطاعات والشركات التي يتوقف عليها نجاحنا في المستقبل. لكن من يدري أن منطق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يكون قومية اقتصادية (ثاتشرية) فحسب، بل نوعاً من نشاط الدولة الذي كان يُنظر إليه على أنه اشتراكية؟
يبدو هذا وكأنه تفسير معقول لما يحاول البريطانيون القيام به. كما يشير إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يجب أن يتماشى بقوة مع القومية الاقتصادية التي قصدها ستيف بانون، مدير حملة دونالد ترمب السابق. القضية الصارخة هي أن هذا رفض فعلي للثاتشرية (تماماً كما وصفت الترمبية على أنها رفض للريغانية).
ينطوي ذلك على العودة إلى السياسات التي ردت عليها مارغريت ثاتشر. في الستينات، وعد رئيس الوزراء من حزب العمال، هارولد ويلسون، بتغيير البلاد مستخدماً «الحرارة البيضاء للتكنولوجيا». نستدعى هذه المحاولة عموماً بسبب الإخفاقات الكئيبة، مثل طائرة كونكورد الأسرع من الصوت (المشروع المشترك مع فرنسا)، أو نظام الصواريخ المهجور المعروف باسم «بلو ستريك».
كانت حكومة ويلسون مليئة بالتكنوقراط اللامعين والمتحمسين، ومع ذلك فشلوا في اختيار الفائزين. فمن الصعب معرفة ما إذا كان من المشجع أو المحبط أن يبدو أن جونسون وكامينغز يعتقدان أنه يمكنهما القيام بعمل أفضل من هذا الجيل السابق، أو من السوق.
من السهل معرفة سبب قلق المستثمرين، إذ يجب ألا تتحرك القيمة السوقية لأي شركة بمقدار 400 مليار دولار في 3 أيام فقط. فاضطراب بهذا الحجم يزيد من مخاطر وقوع حوادث سوق كبرى. إن التقلب في حد ذاته هو حجة للمنظمين لتشديد الضوابط. عادة ما تكون الخيارات طريقة جيدة لإدارة المخاطر، ففي هذه المرة تعرضوا للظلم، سواء بتعرضهم للمخاطر أو بخلقها.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»