في عام 1883 انضمت مجموعة قليلة إلى جنازة أشهر وأكبر فيلسوف في العالم وقتها وهو كارل ماركس في مقبرة لندن، وكان معهم موظف الدفن.
كانت أشهر عبارة نقشت على لوحة قبره هي: «الفلاسفة فسروا العالم بطرق مختلفة.. لكن المسألة هي في تغييره».
وما لم يعرفه الكثيرون عن الفيلسوف العبقري، الذي هزت أفكاره الكثير من الشعوب والأنظمة حتى وقت قريب من الزمن، هو أن هذا الرجل الخطير أمضى حياته، أو معظمها، هاربا من الشرطة ومن الدائنين!
وكان يقول عن عمله الأهم وهو كتابه الضخم «رأس المال»: «لم يكتب أحد هذا الكم الهائل من الكتابة عن المال وهو لا يملك إلا قليلا جدا من المال، و(رأسماله) لا يكفي أحيانا ثمن التبغ الذي دخنته وأنا أكتبه»!
مات ماركس متحسرا على أن أفكاره وكتبه ومعاناته في الفلسفة لم يؤمن بها أحد في حياته، ولم يطبق منها شيء طبعا وهو حي يرزق.
غير أن هذا الرجل ذا اللحية الكثيفة الشهيرة لم يكن هو وحده الذي رحل عن الدنيا وأفكاره لم تجد الصدى المطلوب ولا التشجيع المأمول. فهناك العشرات بل المئات حول العالم الذين راحت أفكارهم الجميلة سدى، كأنهم كتبوا لأنفسهم أو شقوا من أجل أن ينساها الناس أو أحيانا يتندرون عليها، وعلى من صنعها!
أكثر الأفكار الرائعة والجميلة في الدنيا كان الناس يسمعون عنها، وأحيانا لا يسمعون، ولا يلقون لها بالا؛ فهم إما مشغولون بالركض وراء رزقهم أو البحث عن مطالب معيشة أولادهم التي لا تنتهي.
بالمقابل، هناك مفكرون وكتّاب وفلاسفة وغيرهم من المبدعين يستعجلون رؤية أفكارهم وآرائهم وهي تنفذ على أرض الواقع، وهناك بعضهم يريد أن يراها أمامه كي يسعد بها، وهذا حقه الذي لا ينازعه عليه أحد، غير أن المأساة في بعض الأوقات هي أن يكون البشر وحتى الحكومات مشغولين بما يعتقدون أنه الأهم والأنفع.
عندنا مثل مشهور يقول: «قل كلمتك وامش». والكثير من العباقرة قالوا ما عندهم من كلام وإبداع وعبقرية ومضوا، بعضهم تعجلوا في الرحيل، وغيرهم ماتوا وهم في حسرة، وآخرون كانوا محظوظين جدا عندما عاشوا ووجدوا بعض أفكارهم وهي تطبق وتدرس، والأهم يعرفها الجميع ويتحدثون عنها في فخر واعتزاز.
غير أن أكثر العباقرة في الدنيا تفاؤلا هم الذين لا ينتظرون أن تنتشر أفكارهم وعصارة ما في عقولهم في أيام أو سنوات قليلة، فالأعمار قصيرة والبشر ليسوا ديناصورات لكي يعيشوا ما رغبوا من الدنيا.
البشر يموتون والأفكار تبقى حية. لكنها تشبه الزهور التي تبحث كل صباح عن ماء يسقي عطشها ويروي تطلعها إلى أن تكبر وتتفتح.
أما ثمن التبغ فقد ندفعه أحياء أو يظل أحيانا ديونا ثقيلة على أحفاد لا ذنب لهم سوى أن أجدادهم حاولوا تغيير العالم إلى الأجمل!
8:18 دقيقه
TT
مسامرات رأس المال
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة