حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

في رؤية مختلفة للأولويات والمصالح!

أليس لافتاً أنه بين الثالث عشر من أغسطس (آب) واليوم الثالث عشر من سبتمبر (أيلول) لم تشهد المنطقة العربية أي مظاهرة رافضة للقرار الإماراتي توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل؟! ولنذهب أبعد: ألا يمكن قراءة الموقف الشعبي العربي على أنه تفهم للقرار الذي وصفته أبوظبي بأنه حق سيادي لها؟! واليوم، بعد أقل من شهر على هذا الحدث الكبير بكل المقاييس، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يوم العاشر من سبتمبر (أيلول)، عن التوصل إلى اتفاق سلام جديد بين إسرائيل والبحرين، وصفه في تغريدة له بأنه «إنجاز تاريخي جديد... دولة عربية ثانية تبرم سلاماً مع إسرائيل في أقل من 30 يوماً»!
أما البيان المشترك الصادر عن واشنطن والمنامة وتل أبيب، فقد وصف الخطوة بأنها «إنجاز تاريخي لدفع السلام في الشرق الأوسط... يزيد من الاستقرار والأمن والرخاء في المنطقة». وقالت البحرين إن الخطوة تصب «في مصلحة أمن المنطقة واستقرارها وازدهارها»، وكلفت وزير خارجيتها الذي سيشارك في حفل توقيع الاتفاق الإماراتي - الإسرائيلي، الثلاثاء، في البيت الأبيض، بأن يوقع مع نتنياهو الاتفاق بين البحرين وإسرائيل.
هناك جديد يتمثل في رؤية مختلفة لأولويات المجتمعات العربية ومصالحها، وكيفية معالجة مشكلاتها، وقد تضاعفت في السنوات الأخيرة. انطلقت الرؤية المختلفة من المخاطر المتأتية عن بروز مطامح القوى الإقليمية الفارسية والعثمانية على حدٍ سواء، فتتباهى طهران بوصولها إلى المتوسط، مع سيطرة الهلال الفارسي على أربع عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. وعلى أرض الواقع، يضغط هذا الهلال على الأردن ودول الخليج العربي! وبالتوازي، يتقدم هلال عثماني، يتكامل مع الأول ولا يصطدم به، وينفضون الغبار عن خريطة للدولة السلجوقية، فيمتد هلال مشروع العثمانية الجديدة من شمال العراق وسوريا إلى ليبيا والصومال وقطر... إنه التوسع لمتطرفي «ولاية الفقيه» و«الإخوان المسلمين» يحاصر المنطقة وأهلها، ويطلق أعتى موجة اقتلاع وتغيير ديموغرافي وتشييع وتتريك لفرض هذه السيطرة!
من هذه الخلفية، يمكن النظر إلى تسارع الخطوات التي وصفها وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، الدكتور أنور قرقاش، بأنها «مؤشر واضح نحو ضرورة مراجعة استراتيجيات لم تؤتِ ثمارها»، ويضيف أن المراجعة «مقاربة بشكلٍ مختلف للأهداف».
لنعد قليلاً إلى الوراء: قبل 27 سنة، أُقر «اتفاق أوسلو» الذي منح الفلسطينيين فرصة إيجاد كيانٍ سياسي لهم فوق أرضهم التاريخية. ورأت منظمة التحرير أنه بعد 10 سنوات على الخروج من لبنان ربما يكون ممكناً تغيير المسار. مثّل الحدث فرصة لإعادة ترسيخ حضور منظمة التحرير، بعدما جرى استبعادها عن مباحثات مدريد، عندما جرى إلحاق الفلسطينيين بالوفد الأردني، فذهبت لاتفاقية قالت إنها تمنع عزل الفلسطينيين وشطبهم من المعادلة. كان ذلك مقابل أثمانٍ كبيرة، بدأت بالتخلي عن حدود الـ48 للقبول النظري بحدود الـ67. وترك الباب مفتوحاً أمام خطر الاستيطان الذي راح يتوسع، وتالياً الرضوخ إلى ضغوط تقسيم الأراضي إلى فئات «أ» و«ب» و«ج»... ومنذ ذلك التاريخ، يمكن النظر إلى أن «اتفاق أوسلو» فتح الباب أمام العلاقات العربية مع إسرائيل بعد مرور نحو 15 سنة على اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية.
وإذا ما نظرنا إلى بعض ما يحصل في لبنان، فالملاحظ أن تلاحق الأحداث الكبيرة، مع تداعي منظومة الفساد المتسلطة، حال دون التوقف أمام ما كشف عنه رئيس مجلس النواب نبيه بري على مستوى الاتفاق الذي تبلغه الجانب الأميركي بشأن ترسيم الحدود الجنوبية مع إسرائيل. أول ما يلفت الاهتمام أن أحداً في لبنان لا يعرف التفاصيل خارج دائرة «الثنائي الشيعي» (حركة «أمل» و«حزب الله»)، وكم تبدو لافتة حنكة المفاوض الأميركي لأن الاتفاق مع هذا الفريق سيحول دون التملص اللاحق، مع أن من شأنه إلغاء ملفات من الذرائع والتبريرات التي كانت تستخدم حججاً لبقاء السلاح الميليشياوي الفئوي، رغم أن تلك «المقاومة» انتهت منذ إعلان 25 مايو (أيار) عيداً للتحرير، وترسيم الخط الأزرق.
لقد تم الإعلان عن التوصل إلى هذا التقدم بتاريخ 7 يوليو (تموز)، ولئن كان ذلك لا يعني سلاماً مع إسرائيل، أو تطبيعاً للعلاقات، فإن الإقرار بخط الحدود بالغ الأهمية لأن إسرائيل التي لم تعلن يوماً أين حدودها تكون قد اعترفت بالحدود مع لبنان. هذا الحدث لا ينعزل عن التطورات المفصلية التي تتم في المنطقة؛ تطورات من شأنها أن تضيء على تعاطٍ عربي مختلف، جرت الإشارة إليه أعلاه، بأن ما من مظاهرة عربية رافضة لاتفاقات السلام الجديدة، اللهم إلا في الجانب الفلسطيني، وهو مفهوم. أما لبنانياً، فإن ما تم الإعلان عنه هو خطوة متقدمة في مسار صحيح، بدأ مع رسم الخط الأزرق إثر زوال الاحتلال الإسرائيلي في عام 2000، وانعكس ذلك رخاء على المنطقة الحدودية التي مع وجود «اليونيفيل» عرفت استقراراً كبيراً.
من المفيد في هذا التوقيت رؤية الأمور من منظارها الحقيقي، بعيداً عن الأوهام. وإذ ذاك، ليس صعباً التنبه إلى أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت استغلال حكام طهران للقضية الفلسطينية بهدف السيطرة على المنطقة العربية، وليس لتحرير فلسطين. البداية كانت الدفع لشطر القضية الفلسطينية لإضعافها، والإمساك بقرار قطاع غزة، ولم يكن أبداً تنفيذ التهديد، بأن رمي إسرائيل في البحر لن يستغرق إلا 7 دقائق! وقد أثبتت طهران، منذ الخميني إلى علي خامنئي، أن هاجس التمدد الإمبراطوري، واستتباع بلدان المنطقة، هو حجر الرحى في سياستها، فلم تألُ إيران جهداً في سعيها إلى تفتيت دول المنطقة وهدم جيوشها، بإقامة جيوش مذهبية بديلة، والإمساك بقرارها بعد اقتلاع أهلها، لتطويع قدراتها من خلال تغذية الطائفية والفتن المذهبية. ولا يتسع المجال لتعداد الارتكابات التي لم يسلم منها أي من البلدان العربية، وكلها تمت في سياق مدروس لإتاحة تقدم سيطرة النظام الإيراني! واليوم، تقوم تركيا إردوغان بنهج شبيه للتوسع والهيمنة والاستئثار وفرض التتريك بالتعويل على المتطرفين من أتباعها!
في هذه العجالة، لا بد من القول إنه لا «اتفاق كامب ديفيد» ولا «اتفاق وادي عربة» قد انعكسا تقدماً في خطوات التطبيع بين مصر وإسرائيل، وبين الأردن وإسرائيل، لكن التحدي المزدوج الفارسي والعثماني الجديد قد يكون، مع عناصر أخرى، الحافز الأكبر لاتفاقات سلام مع إسرائيل دشّن «اتفاق أوسلو» طريقها، وربما تتحول مثل هذه الاتفاقات إلى مشاريع تعاون وتحالف في مواجهة الخطر المستجد الذي كلف العرب، بلداناً وشعوباً، الأثمان الكبيرة، في وقت تشتد فيه العزلة على ما بقي من بلدان وقوى «محور الممانعة».