في أواخر القرن التاسع عشر كان هناك موظف يعيش على حدود الأوروغواي مع البرازيل. وكان عمله يفرض عليه التنقل من قرية إلى قرية في تلك المناطق النائية. كان الرجل المسكين يسافر في عربة تشبه القطار تجرها خيول مع ثمانية مسافرين في الدرجات الأولى والثانية والثالثة.
وبسبب فقر «خوان»، وكان هذا هو اسمه، كان يضطر إلى أن يشتري تذكرة درجة ثالثة دائما، لأنها ببساطة كانت الأرخص ثمنا والأقدر على ميزانيته المتواضعة.
غير أن الرجل لم يفهم، رغم كثرة أسفاره وتنقلاته، لماذا توجد أسعار مختلفة! فالجميع يسافرون معا، من يدفعون أكثر ومن يدفعون أقل: يسافرون محشورين مع بعضهم بعضا، يبتلعون الغبار، ويهتزون مع اهتزاز العربة دائما.
لم يفهم «خوان» السبب قط، حتى علقت العربة في أوحال يوم شتائي كثير المطر، عندئذ أمر الحوذي المسافرين بالآتي:
- ركاب الدرجة الأولى يبقون في العربة!
- ركاب الدرجة الثانية ينزلون!
- وركاب الثالثة.. عليهم أن ينزلوا ليدفعوا العربة!
سمى الرجل هذا اليوم بـ«يوم العدالة الاجتماعية»!.. وعرف سر التفرقة بين الركاب والدرجات، ومحا عن عقله البسيط كل الغباء الذي كان يسيطر عليه ويعشش فيه لفترة طويلة.
في المحصلة النهائية هناك بشر بسطاء وغير بسطاء لا يعرفون قسوة أو حتى بهجة الحياة إلا عندما تواجههم، أو عندما تلقي بهم في مصيبة ما، أو عندما تجعلهم يفوزون بيانصيب مهما كان قليلا، فتشعرهم بأن لهم «نصيبا» في الحياة حتى ولو كانوا من ركاب الدرجة الثالثة!
والعدالة الاجتماعية مطلب قديم جدا خاضت فيه النظريات والآيديولوجيات والسياسيون الكثير من الحروب والمجابهات، والكثير منها فشل في التطبيق والنظرية، والقليل منها نجح ولكن لفترة بسيطة، وقدم فشله على طبق من ذهب.
وإذا كان معظم الناس يبحثون عن تلك العدالة، التي يبدو أنها شبه مستحيلة، فإن الكثيرين من هؤلاء الباحثين وجدوا أن مجرد الحلم والوهم بها هو في حد ذاته انتصار لما يكافحون من أجل تحقيق وإثبات وجوده.
أعرف أن الأحلام اليوم أكثر بملايين المرات من الوقائع، سواء كانت على الأرض أو على السماء، غير أن علماء نفس اكتشفوا أن مجرد الحلم بالشيء هو شيء يستحق أن نفرح من أجله، بينما العيش بيأس وبلا أحلام هو انتحار سريع!
كما أعترف بأن هناك قضايا لا يمكن حتى الحلم بها بسبب كثرة المستحيلات والموانع فيها، وأن الطمأنينة هي أحيانا أفضل من لا شيء! غير أن هناك فرقا كبيرا بين تلك الطمأنينة المزعومة والأحلام التي تغادر عقولنا بمجرد استيقاظنا من النوم؛ فالأولى تعطيك مشاعر بأنه لا شيء يميزك عن غيرك من البشر مهما كنت فقيرا جدا، بينما الثانية، وهي الأحلام، تجعلك تطير وتصل إلى القمر وأنت لم تدفع حتى ثمن تذكرة درجة رابعة!
كل شيء جميل وعادل في الحياة يستحق أن نحلم به وننام على مخدته ونضع أجسادنا المنهكة على سريره. فهناك أحلام عادلة تحققت في الليل وفي الظلام الحالك، وتم إنجازها في النهار بينما كانت الشمس لا تعطينا سوى النور والعرق والكثير من اللهاث وراء الرزق الذي يأتي أحيانا مغموسا بالشقاء أو معجونا بالمحبة.
شخصيا أختار المحبة وأنحاز إلى الأحلام مهما كانت مستحيلة، فهي مثل «العدالة الاجتماعية» ومثل «الدرجة الثالثة»؛ مجرد عربة في قطار قد يتوقف في المدينة التي نريدها، أو يهرب منها بعجالة شديدة ينهب فيها الطريق ويوصلنا إلى أماكن لم نعرفها، وإذا عرفناها وعشنا فيها فقد لا نحبها.
وهكذا فأن تركب الدرجة الثالثة اليوم هو خير من أن تسير على قدميك في أيام الصيف الحارة أو في ساعات الشتاء القارسة والممطرة!
TT
اللعنة.. درجة ثالثة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة