حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

هنية زائر غير مرغوب فيه!

لولا التواطؤ الرسمي ما كان ممكناً أن تطأ قدما إسماعيل هنية أرض لبنان. الأمر الأكيد أن إتمام زيارة الزائر غير المرغوب فيه شعبياً، بعد جريمة الرابع من أغسطس (آب)، وما سبقها من انهيار مالي – اقتصادي مريع تعمق مع تفشي الجائحة، حدث ليس فيه أي مصلحة لبنانية.
الأكيد أن الزيارة تندرج في خدمة المصالح الضيقة لـ«حزب الله» الذي رتب زيارة تصب في خدمة الأجندة الإيرانية. لذا من البداية أجمعت القراءات السياسية على توصيف الزيارة بأنها تفخيخ مقصود للمبادرة الفرنسية التي كان بين أبرز عناوينها خروج «حزب الله» من صراعات المنطقة، وعودة حقيقية إلى «النأي بالنفس»، فإذا بالزيارة والزائر المستفز وخطبه الحماسية تتكفل بإغراق لبنان أكثر فأكثر. لا؛ بل إنها من جهة الرد العملي على دعوة الحياد التي استقطبت الناس، ومن الأخرى أريد منها إفهام باريس أن سقف تعاون «حزب الله» مع المبادرة الفرنسية منخفض جداً! وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن قذائف هنية الحقيقية استهدفت الأشقاء العرب، فإن ذلك شكَّل رسالة لمن يعنيه الأمر، مفادها أن لبنان لا يستحق محاولة الإنقاذ!
ما تقدم يؤكد أنه لم تبذل حتى الجهود البسيطة لتقديم مبررٍ للزيارة، فاكتفوا بأن روجوا لدعاية مفادها أن لقاء أمناء الفصائل الفلسطينية هو الدافع لمجيء زعيم «حماس»؛ لكن لماذا بيروت مكان هذا الحوار؟ مع أن الأمر كان متيسراً عبر تقنية الفيديو كما حصل بين المجتمعين في بيروت والآخرين في رام الله؟ وهل أن الخروج من غزة الذي تطلَّب 4 تواقيع من نتنياهو وغانتس وزير الدفاع ووزير الأمن القومي ومدير المخابرات، كان تسهيلاً صهيونياً من أجل بلورة موقف لفصائل فلسطينية ضد إسرائيل؟ أو أنه تقصَّد استدراج اعتداء إسرائيلي بإعلانه أنه يمتلك في بيروت الصواريخ التي سيقصف بها تل أبيب وما بعد بعد تل أبيب! مع أن تنفيذ مثل هذه المهمة أسهل وأيسر على هنية وصحبه من غزة المصادر بحرها والمزنَّرة حدودها بالمستوطنات القريبة جداً!
من أجل زعيم «حماس»، وهو المتهم بالإرهاب، إذ يكفي تذكر مذابح غزة، جرى فتح صالون الشرف في مطار بيروت الدولي، فاستُقبل بحفاوة من تابعين لـ«الحرس الثوري»، وواكبه العسس في جولاته ولقاءاته! وإذا كان اللقاء مع نصر الله مفروغاً منه، فإن اللقاءات السياسية الأخرى التي أجراها تطرح الأسئلة عن انعدام الرؤية والتبصر لدى بعض السياسيين اللبنانيين الذين استسهلوا التحاور مع جهة تعاملت مع بيروت بوصفها منصة لإطلاق معركة سياسية وإعلامية ضد قرارٍ سيادي إماراتي، له ما له وعليه ما عليه، فكان أن شاركوا في الاحتفاء بالشخصية التي تتلقى دورياً حقائب الأموال القطرية عبر مطار اللد ومكتب رئيس وزراء العدو، وتتعامى عن التطبيع الحقيقي بين إسرائيل وسادته (هنية) في أنقرة والدوحة!
فوق ذلك كله لم يطرح أي من مستضيفي هنية السؤال عن نوع الفائدة التي يجنيها لبنان، ويمكن أن تقدمها زيارة الزائر الغزاوي التي تجاوزت كل الأعراف والحدود، فهل البلد بحاجة مثلاً للتماثل مع نموذج غزة؟ أو للتماثل مع «نجاحات» قيادات «حماس» في توحيد الفلسطينيين بوجه سكاكين الصهاينة التي تمعن تقطيعاً في الأرض والبشر؟ أو «نجاحات» هنية الشخصية في المسؤولية عن شطر القطاع عن الضفة، وإحلال الديمقراطية في غزة، وتحقيق الأمن والاستقرار والرخاء للغزاويين؟
لكن تبقى محطة مخيم عين الحلوة العلامة الفارقة في الزيارة، فقد جرى في زمن «كورونا» رفع الزائر على الأكتاف على وقع الزغاريد والهتافات. استُقبل بعراضة مسلحة مثيرة للسخرية، وكأنه عائد لتوه من تحرير بحر غزة، وتحقيق إنجازات عجز عن تحقيقها الأوائل. بدا هنية مبتهجاً في صحة جيدة؛ لأن من هم مثله لا تمر بجوارهم حالات الجوع والعوز التي تلف القطاع المختطف وسائر مخيمات الداخل والشتات. لا يبدو أنه اهتم أو تأثر بصور المتعبين أو حقيقة الحياة الصعبة لكل أبناء المخيمات الذين تركوا لمصيرهم، تنهشهم البطالة ويفتقرون حتى لحبة الدواء ولا يسأل عنهم أحد، بعدما تضاءلت مساعدات «الأونروا» الشحيحة أصلاً، وتم تحويل المخيم إلى بؤرة مطلوبين، وحددت وظيفته في خدمة المخططات السوداء!
الأنكى أن تتم هذه الزيارة بعد تجاهل السلطات اللبنانية إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس منذ زمن، أن المخيمات في لبنان تحت سيادة القانون اللبناني، وتحت إمرة الدولة اللبنانية، ولا حاجة للسلاح الفلسطيني، ليتأكد أن «حزب الله» مباشرة وعبر المريدين، باتت له كلمة كبرى في الهيمنة على المخيمات، وليتأكد تالياً أن السلاح الذي ظهر في استقبال هنية هو بإمرة الدويلة، مع العلم بأن السواد الأعظم من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ليسوا جزءاً من المشروع الانتحاري الذي يمثله «حزب الله» و«حماس»!
هذه العودة اليوم باسم الفلسطينيين التي رتبها «حزب الله» لاستخدام لبنان واستخدام المخيمات، هي عمل متصادم على خط مستقيم مع مصالح أهل المخيمات؛ لأن «حماس» ليست قادرة على التعلم من الدروس المفجعة السابقة، ما قد يرتب أعباء إضافية على اللاجئين الذين يعامَلون بتمييز سلبي منذ وقع لبنان تحت الاحتلال السوري. وإذا كان معلوماً أن «حزب الله» أراد تسخير اسم فلسطين ليوظفه في خدمة مخططات موكلة له، فالزيارة التي قوبلت بالاشمئزاز اللبناني الواسع، تؤكد من الألف إلى الياء تبعية هذه الفئة لحكام طهران ومشروعاتهم، الأمر الذي ينسجم مع سياسات الدوحة ربيبة «حماس»، وبالتالي فإن هذا الزائر هو أبعد ما يكون عن الحرص على اللبنانيين ومصالحهم!
لقد قالت الزيارة إن هنية وما ومَن يمثل، يمارس على أهله الغزاويين ممارسات سلطة احتلال؛ لأن ما تريده حركته هو الاستمرار في اختطاف غزة، وأن تستمر قاعدة لجماعة الإسلام السياسي المتطرف، أي «الإخوان المسلمين»، وهي الفريق الذي لم تقدم تجاربه إلا السواد والخراب والدمار ودوماً التبعية.
من هذه الخلفية ليس في الزيارة البائسة أي حرص على اللبنانيين ومصالحهم، ولا إقامة أي اعتبار أو وزن لاستقلال لبنان وأولويات شعبه، ولن يضير هذا الزائر أن يكون قد تسبب في تحريك نار فتنة هامدة. وما قالته الزيارة بوضوح إن ارتهان الحكم للدويلة واستمرار نهج الممالأة وتسديد الفواتير، يعرض لبنان لأثمانٍ لا طاقة له بها!