د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ماراثون جديد للحوار الليبي

تقطعت أنفاس المتحاورين الليبيين، وهي تركت لاهثة في ماراثون طويل لسنوات، بدءاً من غدامس في الصحراء الليبية الكبرى، ومروراً بمحطات جنيف المتعددة، وتوقفاً عند الصخيرات المغربية، التي أنتجت «توافقاً» لم ينفذ أغلب بنوده، بل تم اختراقها في أكثر من موضع ومرة، لتتواصل الأنفاس تلهث جرياً بين عواصم العالم من باريس، مروراً بروما، وعودة إلى باريس، وتوقفاً في أبوظبي، وعودة لباريس، ثم تنقلت بين القاهرة والجزائر وتونس، للتوقف اليوم في بوزنيقة المغربية بين الرباط والدار البيضاء.
ترك العودة إلى الصخيرات واختيار قرية بوزنيقة المغربية، وزنيقة تعني تصغير الزَّنَقة: وهو مسلكٌ أو ممرٌ ضيقٌ، فهل هي إسقاط لغوي لصعوبة وضيق المسار الليبي، أم إسقاط سياسي لملاحقة القذافي لليبيين «زنقة زنقة»، أم أنها محض الصدفة.
محطات الحوار التي يطلق عليها عادة الحوار «الليبي - ليبي»، وواقع الحال غير ذلك، فقد كانت دائماً برعاية الأطراف المتدخلة في الأزمة الليبية لإجهاضها، خصوصاً تركيا وقطر، فبمجرد انعقاد الحوار بين وفد من مجلس النواب ومجلس الدولة الاستشاري، طار السراج رئيس المجلس الرئاسي غير الدستوري إلى إسطنبول، لتلقي الأوامر من الباب العالي، فتركيا لا تزال تواصل عمليات نقل المرتزقة إلى ليبيا، وتعزيز وجودها من خلال السيطرة على مزيد من الموانئ والمطارات الليبية، بعد أن مكنتها حكومة «الوفاق» غير الدستورية من قاعدة الوطية الجوية ومصراتة البحرية باتفاقية تدوم 99 عاماً؛ اتفاقية وقعها من لا يملك حق التوقيع (حكومة الوفاق) لمن لا يستحق هي تركيا.
اللقاء بين وفد البرلمان المنتخب ووفد مجلس الدولة غير المنتخب وغير الدستوري، الذي هو «إخواني» بامتياز، وهو مجرد نتاج اتفاق الصخيرات، يعتبر لقاء بين كيان له شرعية انتخابية هو البرلمان، وكيان غير شرعي، يريد شرعنة الأمر، الذي لن يسهم في حل الأزمة، بل سيكون لمجرد كسب الوقت لإطالة عمر الأزمة التي تراوح بين قتل الوقت وكسبه، وبين إطالته وإضاعته في الفرعيات، فالأزمة الليبية ليست أزمة خلاف على شخوص، أو أعدادهم، كما يتم التسويق لها، وليست في أن يكون المجلس الرئاسي ثلاثة أشخاص بدلاً من تسعة، فهذا تسطيح للأزمة واختزال لها غير مقبول.
اللقاء بين الوفدين قد لا ينتج حلاً عملياً، لكون كلا الطرفين لا يملك السلطة على المتحاربين على الأرض، وبالتالي ما لم تكن هناك نية وإرادة دولية لإنهاء فوضى السلاح والميليشيات في ليبيا، يصبح مثل هذه اللقاءات مجرد ماراثون تنقطع فيه الأنفاس في زمن «كورونا»، التي نحتاج فيه لأنفاسنا سليمة للبقاء أحياء.
يخطئ من يظن أن الأزمة الليبية هي أزمة شخوص أو أشخاص، بل هي أزمة صراع وهيمنة آيديولوجيات متطرفة بوجوه متعددة قابلة للإنبات والتغيير، وبالتالي لن تحل الأزمة الليبية فقط بتغيير الشخوص.
فالأزمة الليبية هي أزمة أمنية بامتياز، وأية حلول أو خرائط طرق أو طريق لا تتضمن حلاً وتفكيكاً للميليشيات، وإخراج المرتزقة الأجانب، هو حرث في البحر، وجري خلف السراب.
حوار بوزنيقة بين وفدي البرلمان ومجلس الدولة، استبقه البرلمان ومجلس الدولة بالتنصل مما قد ينتج عن هذا اللقاء، معتبرين أنه مجرد لقاء حسن نية لا غير، الأمر الذي لا يمكن تصديقه، خصوصاً مع مجلس الدولة «الإخواني»، الذي تشكَّل بمخالفة وخرق لاتفاق الصخيرات، وأصبح يمثل طيفاً واحداً، وهو جماعة «الإخوان» التي كانت في المؤتمر الوطني السابق، الذي اعتاد على ممارسة «التقية» السياسية في تعامله مع خصومه، والتلون في المواقف والتنكر لأي اتفاقات، فما بالك بتفاهمات أعلن مبكراً عن تنصله منها بالقول إن وفده غير مكلف من المجلس، ولا يملك حق التوقيع، في عملية استباقية لأي نتائج قد لا تخدم مصلحته، وهذا يؤكد أن جلوس الطرفين في بوزنيقة المغربية كان لضغوط خارجية، فحضر الطرفان لتمثيل إثبات الحضور من دون الاهتمام بالنتائج في ماراثون النفس الأخير.