د. ياسر عبد العزيز
TT

بل أخطأت فخامة الرئيس

في 30 أغسطس (آب) الماضي، نشر الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو تقريراً في صحيفة «لوفيغارو» تحت عنوان «مآرب ماكرون مع (حزب الله)»، يروي فيه تفاصيل لقاء عقده الرئيس الفرنسي مع محمد رعد، عضو الحزب ورئيس كتلته النيابية في البرلمان اللبناني، في وقت مبكر من الشهر نفسه، بينما كان ماكرون يتأهب للعب دور جوهري في حلحلة الأزمة اللبنانية.
نحن نعرف الآن أن هذا اللقاء جرى بالفعل، لكن الرئيس الفرنسي لم يكن راضياً أبداً عن كشفه للرأي العام، حتى إنه بدا منزعجاً جداً إلى حد تجاوز اعتبارات البروتوكول، حين شاهد الصحافي صاحب التقرير ضمن زملائه الذين ذهبوا لتغطية الزيارة الرئاسية اللاحقة للبنان.
وفي نوبة غضب نادرة، وجّه ماكرون حديثه إلى الصحافي مالبرونو تحت عدسات المصورين قائلاً: «ما قمتم به هو عمل غير مسؤول في ظل حساسية الوضع في لبنان. سمعتني أدافع عن الصحافيين... سأفعل ذلك دائماً، لكني أتحدث إليكم بصراحة... إن ما فعلته هو عمل غير جاد وغير مهني وتافه».
لم يرد مالبرونو على ما قاله الرئيس في نوبة غضبه الحادة تلك؛ وهو أمر يمكن دوماً فهمه ضمن تلك العلاقة الملتبسة والشائكة بين القادة والإعلام؛ إذ نعرف أنه يحق للقادة التعليق على ممارسات إعلامية يشخّصونها حادة وغير مسؤولة، وربما يتخذون قرارات ضمن الأطر القانونية النافذة لمعالجة هذه الممارسات، لكننا نعرف أيضاً أن تلك الصلاحية يجب أن تنطلق من احترام ضروري لحرية الرأي والتعبير، وتقدير واجب لمهمة الصحافة، وعدالة لا تنحرف ولا تكيل بالمكاييل المتعددة.
لا يبدو أن تلك العدالة متحققة، ولا يبدو أن ماكرون يكيل بمكيال واحد؛ فقد بدأت يوم الأربعاء الماضي محاكمة 14 شخصاً من المتهمين في حادث الاعتداء على مقر مجلة «شارلي إبدو» الفرنسية الساخرة؛ وهو الحادث الذي وقع قبل خمس سنوات، وأدى إلى مقتل نحو 17 شخصاً من العاملين بالمجلة، بعد نشرها الرسوم الكارتونية الدنماركية المسيئة للرسول الكريم، وقبل يوم من بدء المحاكمة، أعادت «شارلي إبدو» نشر تلك الرسوم، بداعي «عدم التخلي عن الحرية» و«عدم الانحناء والاستسلام» لأغراض الإرهابيين.
لقد «استفزت إعادة نشر تلك الرسوم مشاعر سلبية لدى ما يقارب ملياري مسلم» كما يقول الأزهر الشريف، الذي رأى أن تلك الممارسة من شأنها «ترسيخ خطاب الكراهية وتأجيج المشاعر بين أتباع الأديان». لكنّ الرئيس الفرنسي دافع عن قرار المجلة، معتبراً أن رئيس الجمهورية «يجب ألا يعلّق على خيارات تحريرية لصحافي أو صحيفة أبداً... لأن هناك حرية إعلام» (...).
لا يتفق ما أتى به ماكرون في هذا الصدد مع ما فعله قبل أيام قليلة، حين وبّخ الصحافي مالبرونو لنشره تقريراً يحوي حقائق سياسية، ولا يتفق أيضاً مع المادة الأولى من دستور بلاده التي تنص على أنها «تحترم جميع المعتقدات»، والأهم من ذلك أنه لا يتفق مع ميراث من الممارسات التي اتخذت فيها باريس قرارات حاسمة حيال ممارسات عدّتها ضارة بالأمن القومي للبلاد.
لقد ورثت «شارلي إبدو» مجلة أخرى كانت تصدر طيلة فترة الستينات من القرن الماضي، وتسمى «هارا كيري»؛ وهي مجلة تم حظرها لأن النظام العام في البلاد، بآلياته القانونية والتنظيمية، رأى أن قيامها بالسخرية من الرئيس الأسبق شارل ديغول بعد وفاته يمثل انتهاكاً لقيمة يجب أن تُحترم. كذلك قرر المجلس الأعلى للإعلام المسموع والمرئي الفرنسي وقف بث قناة «المنار» في 2004 بداعي أنها «تبث محتوى لا يمكن احتماله»، قبل أن يطالب القمر الصناعي المصري «نايل سات» في 2010 بوقف بث «قناة دينية» لأنها «تحرّض على كراهية أتباع بعض الأديان».
إن إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم عمل حاد لا يندرج ضمن استحقاقات حرية الإعلام؛ وهو أمر اتفقت عليه دول أوروبية كثيرة وقطاع كبير من وسائل الإعلام الغربية المرموقة؛ إذ لا يحترم هذا النشر حقوق الإنسان وحرية المعتقد والضمير واحترام كرامة الرموز الدينية وأتباع الأديان، كما يؤجج مشاعر الكراهية، ويخلق أسباباً للفتن والاحتراب.
الهجوم على «شارلي إبدو» عمل إرهابي شنيع لا يمكن التسامح معه أو تفهم دوافعه، ولكنّ احترام الرموز والمعتقدات وأصحابها واجب على الدولة الرشيدة القيام به، خصوصاً إذا كانت تفعل ذلك أحياناً وفق سياسة انتقائية غير مستقيمة وغير عادلة.