سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

طالب السلام لا يحصل عليه بالمجان!

لا جديد في أن تعلن الولايات المتحدة التزامها ليس فقط بأمن إسرائيل، ولكن بتفوقها العسكري على باقي الدول في المنطقة!
فمن قبل لم يقصر رؤساء أميركان كثيرون في إبداء استعداد بلادهم لذلك كلما سألوهم في الموضوع، وكلما وجدوا الفرصة سانحة لإبداء هذا الاستعداد، وقد تكرر الأمر كثيراً من الرؤساء المتعاقبين على البيت الأبيض منذ أن قامت إسرائيل في 15 مايو (أيار) 1948!
وفي 15 مايو 1998 أرادت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أن تحتفل بمرور نصف قرن على قيام الدولة العبرية، فأعدت ملحقاً خاصاً ضمن عددها الصادر في ذلك اليوم، وراحت من خلاله تتقصى مواقف الرؤساء المتتابعين من هذا الالتزام، بدءاً من الرئيس هاري ترومان الذي كان في السلطة يوم جرى الإعلان عن قيام الدولة، ومروراً بالذين جاءوا من بعد ترومان، ثم وصولاً إلى الرئيس بيل كلينتون الذي كان في البيت الأبيض يوم صدر عدد الصحيفة متضمناً ملحقها الخاص!
وكم كانت دهشة الذين طالعوا الملحق، حين تبين لهم أن الالتزام كان واحداً بين الرؤساء الأميركان جميعاً، وأنه التزام ثابت لا يتغير ولا يتبدل، وأن كل رئيس منهم قد راح يردد نفس ما قاله الآخر تقريباً، ولكن بصيغة مختلفة وكلمات تبدو مغايرة!
غير أن ما يجب أن يستوقفنا بقوة، أن إدارة الرئيس دونالد ترمب لم تقصّر بدورها في القضية ذاتها، فأعلن مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، في أثناء مؤتمره الصحافي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في تل أبيب الاثنين قبل الماضي، أن بلاده ملتزمة بالتفوق الأمني لمصلحة إسرائيل!
في ظل أجواء مضت من قبل، كان من الجائز أن تعلن أي إدارة أميركية التزامها بما أعلنه الوزير بومبيو، من دون أن يبدو إعلانها بهذا الشأن مدهشاً أو غريباً، ولكن الأجواء التي جاء فيها هذا الوزير زائراً إلى المنطقة مختلفة بالتأكيد، وكانت تفرض على الإدارة التي يتحدث بومبيو باسمها أن تتبنى خطاباً سياسياً، يختلف عن خطاب الإدارات السابقة عليها في ذات القضية!
فعندما جرى الإعلان في الثالث عشر من أغسطس (آب) عن إطلاق العلاقات بين دولة الإمارات وإسرائيل، كان ذلك برعاية أميركية معلنة، وكان الهدف ولا يزال هو التأسيس للسلام في منطقتنا... سلام يقوم على أساس المبادرة العربية التي جرى طرحها في القمة العربية المنعقدة في بيروت في مارس (آذار) 2002، والتي تضع السلام من جانب العرب مع إسرائيل، في مقابل الأرض المحتلة التي لا بديل عن إعادتها!
هذه هي الأجواء التي تظلل المنطقة هذه الأيام، وهي أجواء لا تبرر الحديث عن تفوق عسكري من نوع ما جاء بومبيو يتكلم عنه في أثناء الزيارة، ويبشر بأن بلاده تلتزم به لإسرائيل، فالمفروض أن جولته هي جولة للتبشير بالسلام، لا بالتفوق عسكرياً لصالح طرف ضد الطرف الآخر!
فلقد تبين لإسرائيل على مدى تاريخها أن التزاماً من هذا النوع على المستوى الأميركي لم يضمن لها الأمن، ولا حقق لها القدرة على البقاء بين جيرانها في سلام، ولا جعلها تشعر بأنها آمنة في مكانها، وليس أدلّ على ذلك من أنها كانت تسعى ولا تزال إلى عقد اتفاقيات مع هؤلاء الجيران في سبيل العيش من دون حروب!
ولو كانت حيازة السلاح الذي يجعلها متفوقة على جيرانها قد حققت لها شيئاً مما تريده، ما كانت قد بقيت ساعية بدون توقف إلى أن تجمعها بالدول في المنطقة معاهدات سلام، وآخر هذه المعاهدات هي التي تسعى حالياً إلى توقيعها مع أبوظبي ومع غير أبوظبي!
وإذا كان جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي ومستشاره، قد قال في حديث له مع قناة «فوكس نيوز» يوم الجمعة 14 أغسطس، إن عاصمة عربية أخرى بخلاف أبوظبي سوف تطلق علاقاتها مع تل أبيب خلال أسابيع، فإن حديث الوزير بومبيو عن التفوق العسكري لصالح إسرائيل، لن يشجع هذه العاصمة ولا غيرها من عواصم العرب على المضي في طريق السلام، وسوف يجعلها تتساءل بينها وبين نفسها عن جدوى السعي في طريق السلام، إذا كان هذا هو ما يشغل واشنطن وتل أبيب معاً!
وعندما وصل الوفد الأميركي - الإسرائيلي إلى العاصمة الإماراتية منتصف هذا الأسبوع، فإن الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي، أراد أن يكون واضحاً في القضية بما يكفي، ولذلك راح يشدد على أن موقف بلاده بشأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية راسخ وثابت. وقد جاء هذا التشديد المقصود من حيث توقيته على لسان الشيخ عبد الله بن زايد، وزير الخارجية الإماراتي، الذي قاله بالإنابة عن ولي العهد ضمن تصريح أطلقه الوزير، بمناسبة تأسيس نادي الصداقة الإماراتي - الفلسطيني!
كان كوشنر يرأس الوفد الأميركي، وكان مما قاله على مسمع من روبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي الأميركي، الذي كان يرافقه في الزيارة، أنهم جاءوا من الولايات المتحدة: يحملون رسالة أمل للفلسطينيين لتحسين مستقبلهم. ولا بد أن الكلمتين الأخيرتين في عبارته في حاجة إلى تغيير لتصبح العبارة على الصورة التالية: نحمل رسالة أمل للفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة تكون عاصمتها القدس الشرقية، لا لمجرد تحسين المعيشة لهم سواء كانوا في غزة أو في الضفة!
وكان مائير بن شبات، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، هو الذي قاد وفد بلاده إلى أبوظبي، وقد استهل حديثه لدى وصوله إلى المطار بأن قال: السلام عليكم. قالها بالعربية على طريقة السياح الخواجات الذين يحفظون كلمات عربية قليلة، ويحاولون التواصل بها مع الناس، كلما جاءوا إلى زيارة لعاصمة عربية. ولكن الأمر مع بن شبات مختلف تماماً، لأننا في حالته بصدد حديث في السياسة لا السياحة، ولأن طبيعة الحديث على هذا النحو تفرض عليه وعلى بلاده، الانتقال من مرحلة ترديد صيغة المصافحة المعتمدة عربياً، إلى مرحلة تؤسس فيها الصيغة نفسها لسلام حقيقي يقوم على ما تقول به المبادرة العربية!
من أجل هذا كله، فإن حديث الإدارة في واشنطن، وهي ترسل وزير خارجيتها إلى جولة ممتدة في المنطقة وسط هذه الأجواء التي نراها ونتابعها، يجب أن يؤسس للسلام كقيمة بين الشعوب... لا للسلاح المتفوق على الجيران في يد إسرائيل!
القضية على مستوى الجانب الإسرائيلي ليست شعاراً يجري ترديده في المناسبات، ولا هي كلمات عربية مكسرة تُقال في المطارات على سبيل التحية والترحاب، ولكنها التزام يفرض على الحكومة الإسرائيلية أن تمد يداً بالأرض، لتحصل في مقابلها باليد الأخرى على السلام!
طالب السلام لا يحصل عليه بالمجان، وقد حصلت تل أبيب على السلام بينها وبين القاهرة في مقابل ثمن كان عليها أن تدفعه، هو الأرض، ولو لم تدفعه ما كانت قد حصلت على شيء. وكان السادات واضحاً في التأسيس للمعادلة بطرفيها في أثناء زيارته الشهيرة، فقال وهو يخطب في الكنيست، إن إسرائيل إذا كانت تريد السلام، فمقابل السلام الوحيد هو الأرض، ولا مقابل آخر يمكن القبول به في كل الأحوال!