علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

الظواهري واللنبي

أشاد شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري كثيراً باللورد إدمون هنري هايمان اللنبي، معتمد بريطانيا في مصر من عام 1919 إلى عام 1925م؛ بمناسبة حديثه عن التصريح السياسي البريطاني الذي صدر في 28 فبراير (شباط) عام 1922م، والذي يعلن مصر «دولة مستقلة ذات سيادة».
هذا التصريح يسمى في أدبيات تاريخ مصر الحديثة «تصريح 28 فبراير»، وهو الذي ترتب عليه تحولها إلى نظام ملكي وإلى نشأة نظام ليبرالي فيها، تكون فيه الأمة المصرية مصدر السلطات، وأفضى إلى تكوّن لجنة الثلاثين التي كتبت دستوراً جديداً، هو دستور 1923م.
يذكر الشيخ الظواهري أن هذا الإعلان كان «في حدود تحفظات أربعة تحصل في شأنها مفاوضات بعد ذلك لتستكمل مصر هذا الاستقلال وهذه السيادة»، لكنه لم يذكر ما هي هذه التحفظات الأربعة. ربما لشهرتها أو من باب الاختصار.
هذه التحفظات الأربعة، كما هو مشهور، هي «تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر. الحق في الدفاع عن مصر ضد أي اعتداءات أو تدخلات خارجية. الحق في حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات. الحق في التصرف في السودان».
يحسن الشيخ الظواهري الظن بالبريطانيين، ويدافع عن مماطلتهم في منح مصر حق الاستقلال الحقيقي والفعلي، فيقول «وقد كانت إنجلترا في هذا الوقت مخلصة في هذا الإعلان من جانبها، فقد تم هذا التصريح على يد اللورد اللنبي معتمد مصر حينئذٍ، وهو القائد الحربي الشهير الذي توج حياته العسكرية الطويلة بانتصاراته المشهورة في فلسطين وفي سوريا في أواسط الحرب العالمية الأولى».
يشير الشيخ الظواهري هنا إلى تولي إدموند اللنبي قيادة قوى التجريدة المصرية (تشكيل عسكري بريطاني أنشئ في مصر عام 1916م) في 7 يونيو (حزيران) 1917، بعد إقالة السير أرشيبولد ماري من قيادتها، وإلى تحقيقه انتصارات عسكرية على الدولة العثمانية في فلسطين وسوريا في الحرب العالمية الأولى.
حتماً سيُفجأ المتدين المسلم بتغني الشيخ الظواهري بانتصارات إدموند اللنبي العسكرية على العثمانيين تلك في مذكراته التي أملاها على ابنه الطبيب فخر الدين، فأصدرها الابن في كتاب عام 1945م؛ وذلك لأن هناك رواية تردد في كتابات الإسلاميين، وهي أن اللنبي حينما دخل القدس محتلاً، وقف على جبل الزيتون، وقال هذه العبارة: الآن انتهت الحروب الصليبية! والشيخ الظواهري هو في المقام الأول، رجل دين مسلم.
وما كان للمتدين المسلم أن يُفاجأ لو كان تنبه إلى أن العبارة عبارة منحولة وضعها الإسلاميون، في وقت متأخر على لسان الفيلد مارشال (المشير) إدموند اللنبي.
فكل الذين يستشهدون بها لا يذكرون المصدر الذي نقلوا العبارة منه. مصدراً يكون شاهد عيان، أو على الأقل يكون معاصراً لحادثة احتلال الإنجليز بقيادة اللبني لمدينة القدس في عام 1917م.
ولعل الإسلامي الوحيد الذي حاول أن يلفق لها مصدراً، هو الجزائري محمد الهادي الحسني في مقال نشره بجريدة «الشروق» الجزائرية قبل أقل من ثلاث سنوات، عنوانه «هل انتهت الحروب الصليبية؟».
قال في هذا المقال بعد أن استشهد بتلك العبارة «ولمن كان في قلبه ريب مما نقول، فقد وقع بعد تصريح هذا الجنرال الصليبي (!) الإنجليزي احتلال مدينة دمشق من طرف الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال الصليبي الفرنسي هنري أوجين غورو... وكان أول ما فعله هو ذهابه إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي، وهناك قال في صفاقة ووقاحة، ونذالة، وسفالة وسفاهة، مخاطباً أحد أنبل القادة العسكريين وأشرفهم - صلاح الدين -: ها قد عدنا بإصلاح الدين.
وقد سجل الشاعر العراقي هذه الواقعة في قصيدة بليغة، ومما جاء فيها:
«رويدك غورو أيها (أيّهذا) الجنرال
فقد آلمتنا من خطابك أقوال
ذكرت لنا الحروب الصليبية (التي)
بها اليوم قد تمت لقومك آمال
فيا عجباً من أمة قدّت جيشها
تشابه كردينالها والجنرال
ولو أننا قلنا كما أنت قائل
لأنحنى علينا بالتعصب عذّال»
الشاعر العراقي الذي لم يسمّه الحسني، هو محمد معروف الرصافي. وقصيدته التي أختار منها أبياتاً، هي قصيدة «رويدك غورو أيّهذا الجنرال». وهي من ضمن قصائد كثيرة قيلت في معركة ميسلون (24 يوليو/تموز 1920)، كتبها شعراء عرب، مسلمون ومسيحيون. ومعركة ميسلون هي المعركة التي هزم الجيش الفرنسي فيها جيش الثورة العربية، وأسقط الحكم الفيصلي في سوريا، وأخضع سوريا للانتداب أو الاستعمار الفرنسي.
تختلف قصيدة الرصافي عن قصائد الشعراء الآخرين التي خلدت ذكر معركة ميسلون وذكر قائدها العسكري يوسف العظمة الذي استشهد فيها، أنه ليس فيها شيء من هذا، بل كان شامتاً فيها بإجلاء الملك فيصل بن الحسين من سوريا، وشتم الهاشميين ببعض أبيات فيها. لأنه كان موالياً للعثمانيين. وتختلف أيضاً أنها لمَّحت إلى العبارة المنسوبة للجنرال غورو عند زيارته لقبر صلاح الدين الأيوبي: ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين!
وبما أن الرواية التي تضمنت هذه العبارة، هي في الأصل رواية شفهية متناقلة، فقد اعتقد الرصافي أن المناسبة التي قيلت فيها هي يوم الوليمة التي أقامتها الحكومة السورية الجديدة التي شُكلت في عهد الانتداب الفرنسي للجنرال غورو في قصر المهاجرين الذي نزل غورو فيه بعد أن كان مسكناً للملك فيصل، وأنه قالها في الخطاب الذي ألقاه بعد إلقاء رئيس وزراء الحكومة الجديدة علاء الدين الدروبي خطابه الاحتفائي بغورو وبالانتداب الفرنسي.
في هذه المناسبة لم يجامل غورو الوزراء والأعيان المحتفين به بإلقاء خطاب مجاملة، وإنما اكتفى بدردشة خفيفة مقتضبة معهم على طاولة الطعام والتي منها سؤاله لهم هازئاً بالملك فيصل: هل كان ملككم فيصل يسكن في هذا القصر الجميل؟ فتصدى للإجابة وزير المالية فارس الخوري، وكان من ملوك الكلام والبداهة وغير هيّاب، فقال «نعم يا صاحب الفخامة، كان الملك فيصل يسكن هذا القصر الذي بناه والٍ تركي اسمه ناظم باشا، ثم حل فيه أحمد جمال باشا ثم الجنرال اللنبي، ثم الملك فيصل، والآن أنتم تحلون فيه، وجميع الذين ذكرتهم أكلنا معهم في هذه القاعة، ولكنهم رحلوا جميعهم وبقي القصر وبقينا نحن.
فظن الحاضرون عندئذ، أن الأرض ستنشق وتبتلع فارس الخوري، وقال أحد الحاضرين مستدركاً: كلمة فارس بك في غير محلها. إلا أن الجنرال غورو تظاهر كأنه لم يفهم شيئاً». (راجع هذه الحكاية وتتمتها في مقال سلام الراسي: لكل خطاب جواب، طربوش فارس الخوري وسرواله. وذلك في كتابه: لئلا تضيع).
اليوم الذي يروى أنه قال فيه تلك العبارة هو يوم آخر، وهو يوم زيارته للأماكن الدينية، المسيحية والإسلامية في دمشق. وكان من ضمن الأماكن الدينية الإسلامية التي زارها المسجد الأموي الذي يقع قبر صلاح الدين إلى جوار أحد جدرانه. فهو كما يروى قالها في أثناء زيارته قبره.
هناك ثلاثة تفصيلات في هذه الرواية. فالرواية الأولى تقول إنه قالها في أثناء زيارته للقبر. والرواية الثانية تقول إنه قالها بعد أن وضع حذاءه العسكري على القبر. والرواية الثالثة تقول إنه قالها بعد أن ركل القبر.
وعلى عكس ما قال الإسلامي الجزائري، أقول: إن الذي ليس في قلبه ريب أن اللنبي قال بعد دخوله القدس الآن انتهت الحروب الصليبية، يجب أن ينبهه الريب في هذه العبارة، بعد أن راح صاحبنا يبحث لها عن أصل قديم في قصيدة الرصافي المذكورة، والتي موضوعها غورو وصلاح الدين الأيوبي والشماتة بانهيار الحكومة العربية في سوريا ذات العمر القصير جداً على يد الفرنسيين، وبتواطؤ سياسي من الإنجليز.
كان الرصافي معادٍ للثورة العربية وأمرائها لولائه السياسي للعثمانيين، ومعادٍ للإنجليز بقدر نستطيع أن نقول عنه إنه أكبر من ولائه السياسي للعثمانيين، فلماذا وهو يشنع على أمرائها ويسيء إليهم في أبيات، لم يلمح فيها إلى تلك العبارة المنسوبة إلى اللنبي زوراً وبهتاناً في زمن متأخر. فأبيات قصيدة الرصافي التي استشهد بها هي حجة عليه وليست حجة له؛ فهي تكشف عن أصلها المزور. فما زور على لسان اللنبي، ما هو إلا صياغة أخرى للمعنى الذي تضمنته العبارة المنسوبة لغورو.
والقصيدة كلها، وليست فقط الأبيات التي استشهد بها، تصلح أن تكون شاهداً يثبت أن الرواية التي قال فيها غورو تلك العبارة، هي – فعلاً - رواية صحيحة.
إن البحاثة الفرنسيين ينفون هذه الرواية، ويعتبرونها رواية منمقة، أو بتعبير آخر مملّحة ومبهّرة.
وزيادة على ذلك ينفون عنه صليبيته الدينية والتي كان فيها مسكوناً بذكريات الحروب الصليبية مع أنها كانت قضية واضحة بجلاء، يثبتها سلوكه السياسي وما قاله وما قيل عنه. وكذلك كان الجنرال ماريانو غوابيه الذي قاد الجيش الفرنسي في غزوه سوريا، والذي دخل دمشق قبل حضور آمره غورو إليها من بيروت.
والحق، إن دفوعات أولئك الباحثين دفوعات ضعيفة. فهم يقولون أولاً عن غورو: إنه تصرف بمهنية تماثل تصرف اللنبي في التعامل المتحضر مع سكان دمشق وممثلي الأديان والمصالح، وإنه قد أكد أنه سوف يحافظ على جعل هدف استقلال الشعب السوري حيّاً!
نلحظ في هذه الدفع مماثلته المدعاة باللنبي الذي كان مسيحياً علمانياً، ولم يكن أبداً مسيحياً صليبياً. وينطق بذلك ما فعله حين دخل إلى دمشق وقبلها حين دخل إلى القدس. فلقد أبدى احترامه الكامل لسكان القدس، واجتمع مع جميع الطوائف والملل والنمل الدينية فيها، ليطمئنهم على احترام حقهم وممارستهم. وينطق بذلك سلوكه السياسي في مصر حينما عيّن مندوباً سامياً فيها. فلقد كان يراعي المشاعر الإسلامية إلى أبعد حد، كما تقضي بذلك تقاليد السياسة الاستعمارية البريطانية. وهو ما أفاض في الحديث عنه الشيخ الظواهري في مذكراته. وللحديث بقية.