ماك مارغوليس
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

«كوفيد ـ 19» يفاقم أزمات أميركا اللاتينية

من بين جميع العلل التي كشف الوباء النقاب عنها داخل الأنظمة الديمقراطية في أميركا اللاتينية، تبقى الشعبوية والاستقطاب الأشد فتكاً من بينها، حسبما أكد أستاذ العلوم السياسية في «أمهرست كوليدج»، جافيير كوراليس. أما الأمر الذي ينطوي تفسيره على صعوبة أكبر فيكمن في الفوضى التي ضربت دولاً أخرى في الأميركتين، حيث تعهد قادة أكثر اعتدالاً على نحو واضح بالالتزام بالمؤسسات الديمقراطية والتوجيهات العالمية بمجال الصحة العامة.
ومن بين الأفكار الشائعة في أوساط أميركا اللاتينية أن مآسي المنطقة تعود إلى السياسيين العاشقين لركوب أمواج الرأي العام. وطبقاً لهذا التصور، فإن هذا النمط من القادة غالباً ما يحطّون من قدر الإجماع ويتسببون في زعزعة التوازن المؤسسي بالبلاد ويخلقون من خصومهم السياسيين أعداء، في الوقت الذي يطلقون وعوداً ضخمة بناءً على خزائن فارغة. وتبعاً لهذا الرأي، فإن التخلص من هذا النمط من القيادات سيضمن تحرك البلاد قدماً نحو الازدهار.
ومع ذلك، كشفت موجة الاضطرابات العامة والمظاهرات التي اشتعلت في دول المنطقة خلال العام الماضي، بوضوح أنه حتى أفضل الدول من حيث الأداء -مثل تشيلي- والتي يديرها إصلاحيون يتميزون بأسلوب تفكير «عقلاني»، حسب وصف كوراليس، عُرضة للسقوط ضحية أمام الاختلال الوظيفي والتفاوتات التاريخية. أما فيروس «كورونا»، لم يفعل سوى إضافة المزيد إلى هذا الدَّين الاجتماعي.
ودعونا نبدأ بكولومبيا وبيرو، اللتين تحركت حكومتاهما مبكراً وسريعاً من أجل تنفيذ إجراءات التباعد الاجتماعي، وذلك في أعقاب الحصول على نصائح طبية من خبراء وإقرار مساعدات كبيرة لأكثر الفئات عرضة للتضرر من الإغلاق الاقتصادي.
وبعد إحراز نجاح بادئ الأمر في تسطيح المنحنى الوبائي، تعرض البلدان لهجوم شرس من الوباء. ورغم الأجندة الإصلاحية الجريئة التي حمل الرئيس مارتن فيزكارا، لواءها، يوجد في بيرو عدد من الإصابات النشطة يكافئ تقريباً الإصابات في المكسيك ويعادل ما يقرب من ربع السكان. ومؤخراً دفنت البلاد أكثر عن 21500 ضحية لوباء «كورونا» مقارنةً بضحايا المكسيك البالغين 54666. أما كولومبيا، فتشهد معدل وفيات جراء الجائحة يقدر بـ43.1 وفاة لكل مليون شخص، ما يمثل أعلى معدل وفيات على مستوى العالم.
إلى جانب الصحة العامة، سرعان ما انهارت آمال الحكومتين في أن تتحول الاستجابة السريعة لتفشي الوباء إلى رأس مال سياسي في رصيدهما. بدلاً عن ذلك، أغوى التراجع الحاد في أعداد الإصابات الجديدة السلطات نحو تخفيف إجراءات الإغلاق مطلع يوليو (تموز)، الأمر الذي تسبب في حدوث ارتفاع حاد في الإصابات من جديد. واليوم، تتركز أنظار الرأي العام المتفحصة على فيزكارا بصورة متزايدة، في الوقت الذي يواجه تجدد وباء وواحدة من أسوأ فترات الانكماش الاقتصادي.
ينطبق الأمر ذاته بدرجة كبيرة على كولومبيا، حيث يواجه إيفان دوكي، التكنوقراطي النزيه الذي اكتسب خبرته داخل بنك التنمية للبلدان الأميركية، مشكلات جمّة. وكان من شأن ارتفاع أعداد الإصابات على نحو صاروخي -رابع أعلى معدل على مستوى أميركا اللاتينية- إجبار السلطات على إعادة فرض إجراءات إغلاق داخل أكبر مدينتين رئيسيتين بالبلاد: بوغوتا وميديلين.
وتفاقمت متاعب دوكي جراء توافد مئات الآلاف من المهاجرين الفنزويليين الذين فروا من الاقتصاد المنهار في وطنهم ليُلقى بهم في هوة البطالة داخل كولومبيا جراء إجراءات الإغلاق بسبب «كورونا». والآن، أصبح يتعين على دوكي إدارة أزمة لاجئين، في وقت تواجه فيه بلاده وباءً متفشياً وفي ظل توقعات بانكماش الاقتصاد بنسبة 7.8% هذا العام.
أما ما يجمع هذه الدول جميعها فإرث من الإعاقات، من دعائم هشة لمنظومة الرفاهية الاجتماعية إلى اقتصاد غير رسمي واسع، حيث يعاني نصف سكان أميركا اللاتينية ممن هم في سن العمل من عدم الحصول على امتيازات أو إعانات بطالة أو شبكات أمان.
وفيما يخص الواحد من كل خمسة من أبناء أميركا اللاتينية الذين يعيشون داخل أزقة عالية الكثافة، مثل تلك التي تعج بها بوينس آيريس، فإن البقاء داخل المنازل يعني كذلك المزيد من التكدس الاجتماعي، الأمر الذي يعرض ملايين الفقراء داخل أحياء رديئة التهوية لخطر الإصابة بالفيروس.
ورغم نجاح غالبية الدول في الوصول إلى الأسر الأشد فقراً بحزم نقدية مستهدفة، فإن ملايين آخرين من المشاركين في الاقتصاد الرمادي انزلقوا إلى الهوة من دون أن يشعر بهم أحد. جدير بالذكر هنا أن ستة من بين كل 10 من أبناء بيرو ليس لديهم حساب مصرفي. وتعد هذه الفئة الديموغرافية غير المرئية السبب الرئيس وراء الإنفاقات الضخمة التي حشدتها المنطقة لمواجهة تداعيات الوباء، ما أدى إلى تضخم الديون على نحو هائل. ومع ذلك، لم تفلح تلك الأموال في تصحيح التفاوتات القائمة منذ أمد بعيد بتلك الدول.
ورغم التزام جميع الدول بالرعاية الصحية الشاملة، فإن التغطية في أفضل أحوالها متقطعة. ولم تصل غالبية دول أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي إلى المستوى المعياري الذي حددته منظمة الصحة للبلدان الأميركية والمتمثل في ضرورة تخصيص 6% من إجمالي الناتج الداخلي لقطاع الصحة، وذلك قبل تفشي الوباء بفترة طويلة.
الواضح أن إغداق المال ببساطة لن يجدي نفعاً. تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنه عام 2017 أنفقت المكسيك 10% من ميزانيتها المخصصة للصحة على الهيكل البيروقراطي الصحي، ما تجاوز أي دولة أخرى عضو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ورغم ذلك السخاء، سحق فيروس «كورونا» مستشفيات المكسيك. وأوضح تقرير أصدرته كلية لندن للاقتصاد العام الماضي أن زيادة الإنفاق على نحو ضخم «دون تناول التحديات التي يخلقها غياب الكفاءة والأداء الرديء، سيكون خطأ أساسياً من جانب السلطات وصانعي القرار».
الواضح أن الإنفاق في مجال الصحة سرعان ما يستنزفه الفساد والحكم المبهم. من ناحيتها وبدلاً عن فتح سجلاتها لتوضيح ما تلقته من مساعدات دولية لمكافحة الجائحة، عمدت السلفادور إلى تحييد أمانة الشفافية ومكافحة الفساد، وإغلاق وحدة مكافحة الفساد داخل وزارة المالية.
أما الاستثناء الوحيد للصورة العامة الكئيبة السائدة أرجاء أميركا اللاتينية، فتكمن في أوروغواي التي نجحت في وقف تفشي الوباء من دون فرض إجراءات إغلاق، وتستعد اليوم لإعادة إطلاق عجلة اقتصادها في الوقت الذي تترنح فيه الدول المجاورة تحت وطأة الوباء. إلا أن العناصر التي ضمنت للأوروغواي الحظ الجيد -انخفاض الكثافة السكانية بالمناطق الحضرية والرعاية الصحية شبه الشاملة- تعد في الجزء الأكبر منها صنيعة يدها، ذلك أنه بفضل عقود من الإصلاحات والحرص على الإجماع الاجتماعي، تبدو البلاد اليوم نموذجاً مغايراً عن باقي دول المنطقة التي توجد بها.
من ناحية أخرى، فإنه من المؤكد أن السياسات السامة وضعت أبناء أميركا اللاتينية في مواجهة مخاطرة أكبر في أثناء أزمة الوباء، لدرجة وصلت حد إهدار سلع عامة حيوية. ويكفي للتأكد من ذلك النظر إلى البرازيل، التي تعرضت جهود 286 ألف عامل بالمجال الصحي جرى تدريبهم لاحتواء الوباء فيها للتقويض بسبب التوجيهات المتناقضة الصادرة باستمرار من جانب حكومة بولسونارو بخصوص البروتوكولات الصحية.

- بالاتفاق مع «بلومبرغ»