جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا وتتالي المفسدين فيها

رحمَ الله الشاعر الليبي محمد الشلطامي. كان شاعراً مُجيداً. أحببناه، وحفظنا قصائد ديوانه الأول «تذاكر للجحيم» حينما كنّا طلاباً في جامعة طرابلس، نتلمس طريقنا للتعبير عن أنفسنا، بحثاً عن موطئ قدم في عالم الأدب، تَكِنُّ به ذواتنا المكبوتة آنذاك. الشلطامي، لسوء حظه، تعرض لمحنة السجن عدة مرات. المرّة الأولى كانت خلال العهد الملكي، وسُجن في مرحلة النظام العسكري أكثر من مرّة. وتوفاه الله في مدينة بنغازي عام 2010، ولو كان حيّاً يُرزق بعد انتفاضة عام 2011، لربما كان عُرضة لتهمة التكفير، والموت اغتيالاً بالرصاص في مدينته بنغازي على يد الغلاة الدينيين. حكى مرّة أنه لدى وجوده في السجن عام 1975 بمعسكر البركة ببنغازي، ضمن مجموعة الطلبة المعتقلين من جامعة بنغازي، ولم يكن طالباً، أنه اتُّهم بكونه شيوعياً، والدليل على التهمة ضده أن سجادة صلاته كانت حمراء اللون!
أتذكر قصيدة له، في ديوانه المذكور أعلاه، يروي فيها قصة عن قاطع درب في ضواحي قرية نائية لا يسلم من شرّه أحد. وفي ذات يوم ظهر ذئب وتمكن من افتراسه، ثم بدأ الذئب بعدها في افتراس العابرين. الشلطامي، في رأيي، كان في الحقيقة يحكي عن ذئب بشري، يرتدي بدلة عسكرية، وبرتبة عقيد. خلال الأيام الماضية، تذكرتُ الشلطامي وتذكرت حكاية الذئب وأنا أشاهد برنامجاً تلفزياً، في إحدى القنوات الليبية، يتناول قضية ميزانية تقدّر بملايين الدينارات الليبية، خصصتها الحكومة المؤقتة في بنغازي، للتصدي لوباء «كورونا»، وشكّلت لجنة من عدة مسؤولين، وأوكلت إليهم مهمة شراء مستلزمات وأدوات تعقيم وتنظيف صحي لاستخدامها في تعقيم المؤسسات والأماكن العامة، وقايةً من التلوث بالفيروس. إجراء إداري صحيح لا غبار عليه، وخطوة استباقية صحّياً للحفاظ على سلامة الأهالي. ما حدث هو أن اللجنة قامت بالسفر، وشراء المستلزمات المطلوبة، والعودة بها إلى بنغازي وتوزيعها على المرافق العامة. لكنّ بعض المواطنين استراب في الأمر، بعد استخدام المطهرات للمرّة الأولى، فقاموا بإرسال عيّنات منها إلى المختبر الحكومي لتحليلها وتبيُّن مدى مطابقتها للمواصفات العلمية المطلوبة. النتيجة كانت سلبية، حيث أكدت التحاليل المختبرية أن المطهرات مجرد ماء عادي لا غير. أُحيل الأمر إلى ديوان المحاسبة والرقابة الإدارية حيث فتح تحقيق، وتبيّن صحة ما ورد في نتائج المختبر الطبي، وأعد تقريراً مفصّلاً عن الحادثة، أُرسل إلى مكتب رئيس الحكومة، للاطلاع واتخاذ ما يلزم من إجراءات ضد المخالفين، وتحويل القضية إلى مكتب النائب العام. وحتى هذه اللحظة، لم يصدر عن مكتب رئيس الحكومة ما يفيد باتخاذ أي إجراء ضد مرتكبي الجريمة!
الحادثة الثانية كانت، أيضاً، ضمن برنامج تلفزي، بُثّ في الأسبوع الماضي، في قناة ليبية أخرى، واستضاف السيد وزير المالية في حكومة الوفاق. اللقاء، لدهشة الجميع، اتسم بصراحة غير معهودة من جانب الوزير، فيما يجري وراء الكواليس من مخالفات مالية داخل أروقة مصرف ليبيا المركزي، تتعلق بنظام اعتماد مستندات الاستيراد، حيث تُمنح الموافقة على بيع ملايين الدولارات بسعر صرف رسمي. تلك الدولارات المخصصة لتوريد بضائع يتم تدويرها في السوق الموازية، حيث تباع بأسعار تصل أحياناً لأكثر من ضعف سعر الشراء الرسمي. الوزير أكد أن مصرف ليبيا المركزي على علم بما يحدث. ووقف موقفاً متشدداً ضد فكرة توحيد سعر بيع الدولار رسمياً سواء للتجار والشركات أو للمواطنين، رغم مطالبات حكومة الوفاق، بغرض التصدي لظاهرة الربح غير المشروع واستئصالها. الوزير قال إن المخالفات تتم بشكل قصدي، ولصالح جماعات سياسية لم يسمّها، لكنه قال إنها معروفة للجميع. واتضح من اللقاء أن الجماعات السياسية المشار إليها تلجأ إلى التحايل باستخدام شركات وأشخاص غير معروفين، يتمّ عن طريقهم تقديم الاعتمادات وشراء الدولارات، ثم تدويرها وبيعها في السوق الموازية. وهذا، بدوره، أدى إلى ظهور أثرياء جدد من شباب صغار في السن، في العشرينات من أعمارهم، وقد صاروا من أصحاب الملايين، بسبب ما يجنونه من أرباح وعمولات. وكما حدث في بنغازي حيث ساد صمت مثقل برائحة تواطؤ على جريمة شراء المطهرات والمعقمات الطبية، خيّم صمت مشابه، كذلك، على طرابلس. ولم يصدر عن مصرف ليبيا المركزي بيان بتكذيب الوزير، أو نفي وإنكار ما ادعاه. كما أن مكتب النائب العام ظل حريصاً على عدم التحرك والتحقيق في الأمر حتى شكلياً، لعدم تقدم الحكومة أو أي جهة رسمية بشكوى، كأن الجريمة أو جرائم التعدي على المال العام تحدث في بلد آخر. صمت الحكومتين، في بنغازي وطرابلس، عما يُرتكب من نهب وفساد وتجاوزات ليس جديداً، أو مخالفاً للمألوف. السؤال: إلى متى يتم هذا الاستنزاف للمال العام، ولاحتياطي ليبيا من العملات الأجنبية؟ ما زال يبحث عن إجابة، في بلد دَمرتْ النزاعاتُ والحروب والإهمال والفساد بنيته التحتية، وافتقرت خزائن مصارفه للسيولة، وتُرك شعبه يواجه كوارث ومآسي صراع دموي على السلطة والثروة، بين جماعات مسلحة برايات مختلفة، مدعومةً بقوى إقليمية وأوروبية، أضف إلى ذلك، كارثة حلول وباء «كورونا»!