سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

كما على الأرض كذلك على شبكة الإنترنت...

الحرب الباردة تتعاظم بين الصين وأميركا، ولم تعد توفر لحوماً، سيارات، كومبيوترات، أو فواكه ومكسرات. كل ما يشترى ويباع أصبح موضع صراع، وزيادة ضرائب أو وضع سدود، لكبح جماح الدولتين العملاقتين بعضهما البعض. لكن رغم السباق المحتدم، جاء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بمنع تطبيق «تيك توك» الصيني مستغرباً، ويؤشر إلى أن المعركة ستذهب إلى أماكن لم تكن متوقعة، من دولة، قدمت نفسها، دائماً، كعنوان للحريات، وحارسة للديمقراطية التي شنت من أجلها حروباً وغزوات.
لم يلم أحد الصين يوم حجبت، «غوغل» و«فيسبوك» ومنعت «واتساب»، وأغلقت الأبواب أمام آلاف البرامج، واستبدلت بها أخرى محلية ومحمية من قبل السلطة. فالأمر متوقع، من قبل نظام يمنع ويحجب، ويعاقب. لكن الغرابة تأتي من أميركا، أم العولمة وحاملة رايتها، ومبتكرة مؤسساتها وحامية منظماتها وشركاتها. فما بدأته مع شركة «هواوي» مواربة، لكبح جماح مشروعها المتقدم 5 جي، بحجة الجاسوسية، واختراق الخصوصية، تكمله، هذه المرة، بوجه مكشوف مع أكثر التطبيقات مرحاً وفرحاً وهزلاً.
من كان يتوقع قبل عشر سنوات، يوم كان عمالقة المشغلين الـ24 وبينهم «شاينا موبيل» يتوافقون على تخطي كل العقبات، وتقديم نظام توزيع عالمي فريد لتطبيقات الهاتف المحمول، ويتحدثون عن أرباح بعشرات مليارات الدولارات، وكأنهم ملوك الساحة وأباطرتها، ولا كابح لعولمتهم. فإذا بنا نرى رئيساً أميركياً، يخرج على الملأ ليتحدث عن «خطورة كبيرة» لتطبيقين من صنف «تيك توك» و«وي تشات»، معلناً الحظر الشامل للشركتين المشغلتين، وكأنه يطلع علينا من كوبا فيدل كاسترو. وإذا كان «وي تشات» أيقونة التطبيقات الصينية بالفعل، وحجر الأساس في تعاملات الصينيين، فإن «تيك توك» هو أبسط من هذا بكثير، وربما لا علة له سوى شعبيته الشبابية الهائلة، على صغار السن. وبعدما قيل إن «واتساب» خلب القلوب، إثر استحواذ «فيسبوك» عليه، تحول في الشهور الأخيرة، إلى موضع للأخبار الكاذبة، وتركيب المؤامرات، وبث الشائعات، عبر المجموعات. وكما العادة، يهوي تطبيق ليصعد آخر، لكن حركة الخطوط البيانية للتطبيقات، صارت موضع رصد حكام الكوكب، وجزءاً من الأمن الاستراتيجي لدولهم.
وليس بلا دلالة أن يطل وزير الخارجية مايك بومبيو ليتحدث عن رغبة أميركا في رؤية التطبيقات الصينية «غير الموثوقة» محذوفة، مما يشي بحملة واسعة ستشنها الولايات المتحدة، لا تزال في أولها.
وبما أنه لا تطبيقات صينية موثوقة أصلاً بالنسبة لأميركا، فإن حملة التنظيف ستكون جذرية. ولكن هل لا نزال نصدق نحن المستخدمين المساكين، بعد كل ما نرى، أن الشبكة هي ذاك المكان الآمن البريء للهونا وهروبنا من ويلات واقعنا؟ فالحرب ما كانت لتتوهج بجنون، لو لم يكن الصيد ثميناً، ويتجاوز الأمن والخصوصية إلى الأرباح الباهظة. والأهم أن من يقبض على الشبكة له سلطة التحكم في العقول وأهواء القلوب. وهنا لب الصراع.
الصين لم تقف مكتوفة الأيدي أمام القرار الأميركي رغم أنه ترك مخرجاً، وهو إمكانية السماح بالتطبيق في حال تمت الحيازة عليه خلال 45 يوماً من قبل «مايكروسوفت» الأميركية. وفي أول رد سريع على القرار الأميركي طلبت الصين من شركة «أبل» - التي تعتبر هذه البلاد العملاقة بمليارها البشري جنة استثمارية لها - أن تزيل 74 ألف لعبة من متجرها، ما يعني أن بلاد التنانين ترغم «أبل» على الخضوع لخسارة كبرى، لن تكون سوى بداية الغيث. وكما أن أميركا لن تتوقف عن طرد التطبيقات الصينية من هواتفها، فكذلك ستفعل الصين وستجبر «أبل» كما شركات أخرى، على مسح آلاف التطبيقات الإضافية، تدريجياً، من مخازنها الافتراضية. والأسوأ أن الحكومة الأميركية ترغب في الحصول على الكودات الخلفية السرية للحسابات الصينية، وهو ما حرصت على الحفاظ عليه «أبل» حرصها على سمعتها ومصداقيتها.
الحرب تتوسع، وكما أرغمت الولايات المتحدة، دولاً عديدة على مقاطعة «هواوي»، أو التعامل مع جيلها الخامس بالحد الأدنى، سينسحب الأمر على التطبيقات الصينية التي بدأت تفرض خدماتها بكفاءة وجاذبية كبيرتين. فالهند واستكمالاً لنزاعها الحدودي مع الصين على قمم جبال الهيمالايا، تشن حرباً افتراضية على جارتها اللدودة من خلال تطبيق سمته «احذف تطبيقات الصين». وهو ذو روح حربية، يقوم بعد تنزيله، بمسح على الجهاز وطرد هذا النوع من المنتجات. وعند اكتمال المهمة، يتسلم المستخدم رسالة تقول له: «أنت رائع». ويبدو أن هذه النوازل التي بدأت بـ«تيك توك» بعد أن تصدر شعبياً كل التطبيقات الأخرى في الهند، وبات له من المستخدمين، ما يقلق السلطات الهندية، لن يقف عند هذه الحدود. فالتجييش ضد التطبيقات الصينية، صار حملة منظمة يشارك فيها نجوم وشخصيات وتدعمها الحكومة. ووصل الأمر إلى حد إطلاق تطبيق بديل مشابه حمل اسم «ميترون». لكن «غوغل» اضطرت للدخول مرتين على خط هذا الاشتباك بين البلدين الجارين، مرة لمنع التطبيق الهندي الطارد للتطبيقات الصينية، لأنه يخالف الشروط المسموح بها، ويتعدى على حقوق طرف ثالث، ومرة ثانية لحذف «ميترون» لأنه مجرد استنساخ عن «تيك توك».
قد يبدو الأمر سخيفاً، وربما مضحكاً، لكنها في العمق حرب نفوذ كبرى. فقد غاب طويلاً عن الساسة أن الإنترنت ستكون محوراً وأصلاً في تحريك المشاعر، وتشكيل الرأي العام، وها هم يستفيقون بشراسة، ويتدخلون بخبث الثعالب. ألم تصبح وسائل التواصل مقتلة الديمقراطية، وموطن استثمار السفاهة، وتنمية الحماقة، ونحر الحقيقة من دون أن تجد من يترحم عليها؟