جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

إردوغان... الضرير السياسي

كسر كل قواعد المنطق السياسي، والتزم مخالفة جميع القواعد والأعراف، ظن أنه من الممكن أن يمتلك العالم من طرفيه، فقد بصره الاستراتيجي، فصار ضريراً سياسياً، لا يعرف أين تطأ قدماه، لم يتعلم الدرس من تداعيات ونتائج ما يسمى الربيع العربي، الشعوب لن تعود إلى هذا المربع الفوضوي التخريبي مهما كان الثمن، الأمن القومي العربي خط أحمر وسد منيع.
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ابن مدرسة تتجاوز في حقوق الغير دائماً، مدرسة فضحها التاريخ ويرفضها المستقبل.
إردوغان يقوم بدور وظيفي لخدمة أجندات وسياسات آخرين، يدرك جيداً أن نجاة القاهرة من مصير عواصم عربية أخرى انهارت تمثل له عقبة كبرى أمام تقدمه في المنطقة، برغم مرور نحو 7 سنوات على سقوط حكم الإرهابية، فإنه لم يفق من سراب استعادة الفكرة واستدعاء المشروع، نصب نفسه مرشداً للجماعة، وراح يسير مثل سيارة تهوي من أعلى بدون «فرامل»، يظن أنه سيواجه الجميع، لكن قوانين «الفيزياء» تقول إن نهايته ستكون كارثية.
ذهبت أنقرة إلى الغرب الليبي لتهديد الأمن القومي المصري، عشرات الآلاف من الإرهابيين والميليشيات والمرتزقة تم نقلهم.
المشهد صار معقداً جداً، بركان دموي قابل للانفجار لا يقل عن «هيروشيما ونجازاكي»، الخسائر ستكون مروعة، أمام دول الجوار الليبى يقف إردوغان متحملاً المسؤولية كاملة.
الأمن القومي التونسي والجزائري، صار مهدداً بآلاف الإرهابيين، لو تقدم الجيش الوطني الليبي نحو الغرب، فقطعاً ستكون تونس والجزائر هما الملاذ لهؤلاء الإرهابيين والمرتزقة، المخاطر تتصاعد، خلايا تركية تنتشر في جسد شمال أفريقيا.
الأمن القومي الجزائري يعيش نفس المخاطر «العشرية السوداء»، نقطة قاتمة لا أحد يتمنى العودة إليها بتحالف الإرهابيين الموجودين في ليبيا مع بعض الخلايا التي تسللت إلى الجزائر.
ثمة قنابل موزعة بعناية يزرعها إردوغان في الإقليم، الأوضاع تحتاج إلى وقفة حاسمة، التفاوض مع وكلاء الإرهاب ومموليه أمر ترفضه الدول الوطنية، الدفاع عن حقوق الدول وسيادتها قضية باتت حتمية للحفاظ على المفهوم الوطني لخرائط الاستقرار.
الأمن القومي السوداني لم يسلم هو الآخر من تحدٍ كبير، المعلومات تقول إن العناصر المتطرفة في شرق أفريقيا، لا سيما الموجودة في الصومال، حيث القاعدة التركية منذ عام 2016، وجماعات «بوكو حرام» و«القاعدة» فى الساحل والصحراء، يريدون الانضمام للمجموعات الإرهابية التي تم نقلها إلى ليبيا، إذن إردوغان يريد تحويل ليبيا إلى قاعدة لكل الجماعات الإرهابية في العالم، ومن ثم لن ينجو السودان أيضاً من خلخلة الاستقرار والتهديد بعودة النفوذ للجماعات الإرهابية، إردوغان يصعد بسرعة نحو الهاوية، فقد بوصلة التحركات، فتح جبهات عديدة، ولم يدرك حجم نتائج تجاوزاته في حق الآخرين، استدعى استفزاز الدول، وظن أنه قادر على اللعب مع الجميع في آن واحد، في دفتر الصدام سجلت 40 دولة حضوراً لافتاً، أهلته تصرفاته للدخول في موسوعة الكراهية والرفض الإقليمي والدولي.
من أجل المال وضعت أنقرة قرارها السياسي رهن الإرادة القطرية، فاتسعت دائرة الكراهية، قادته أطماعه إلى دول آسيا الوسطى، دفع أذربيجان نحو الحرب مع أرمينيا حول إقليم ناغورنو كاراباخ، أصيب بهوس بناء القواعد العسكرية، ظن أن أذربيجان بهذه الحرب تطلب الدعم التركي، ومن ثم بناء قاعدة عسكرية.
لم يدخر جهداً مع دول الخليج، في زرع الخلايا وتهديد الأمن القومي العربي، انحاز بقوة لإشعال الأزمة بين قطر والرباعي العربي، أرسل قواته إلى القاعدة التركية في قطر، ووظف كل إعلامه في تشويه دول الرباعي العربي.
نشوة الأطماع ووهم الخلافة أيقظا بداخله السعي لتأسيس قاعدة عسكرية في اليمن، حتى يصبح شوكة في خاصرة الأمن القومي السعودي والإماراتي.
نجح بامتياز في زراعة الإرهاب والميليشيات في المنطقة، تفاوض مباشرة مع «داعش» و«القاعدة» لنقلهما إلى سوريا والعراق، بصماته التخريبية دامغة في الشمال الغربي والشمال الشرقي لسوريا.
تولى مهمة الإشراف على تخريب العراق، وراح يدعو لاسترجاع أملاك السلطان عبد الحميد الثاني في العراق قبل عام 2023.
اللافت أن الواقع يقول إن أنقرة تعاني انفصاماً سياسياً، ففي الوقت الذي تسعى فيه تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، نجد أن إردوغان يمارس كل صنوف الابتزاز والاستفزاز لدول أوروبا، وفي مقدمتها قبرص واليونان وإيطاليا وفرنسا، وألمانيا، وهولندا والنمسا والتشيك، بل إن المعلومات تؤكد أنه يقوم بتوظيف المساجد والجمعيات الخيرية في أوروبا لخدمة جماعاته الإرهابية وزعزعة الاستقرار الأوروبي.
ولعلنا نتذكر ما قاله الرئيس ماكرون أثناء زيارة مارس (آذار) الماضي مدينة تولوز، عندما قال إن الخلايا العثمانية تشكل خطراً على الأمن القومي الفرنسي، هذا يتفق مع ما وصفه رئيس جهاز الاستخبارات في ولاية ساكسونيا الألمانية بأن خلايا إردوغان أشد خطراً على الأمن القومي الألماني من «داعش» و«القاعدة». نعم «العثمانلي» صار رائداً في صناعة الأعداء؛ موسكو على حافة صدام وشيك بعد أن فاض بها الكيل من تصرفات إردوغان المتمثلة في دعم الإرهاب في الجمهوريات الروسية وتغذية الحركات الانفصالية عن الدولة الروسية.
إذن وسط فقدان «البصيرة السياسية» لأنقرة والتجاوز في حق الجغرافيا والتاريخ للخرائط الوطنية المستقرة، فإن إردوغان سوف يدفع الثمن غالياً، لا سيما أن المؤشرات الخارجية تتسق تماماً مع حجم الرفض الداخلي لسياساته.