حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

لا جريمة من دون مجرم

في أيام معدودة، تلقت المنظومة الحاكمة سيلاً من التنبيهات عن التداعيات المتأتية عن الانهيار المتسارع في لبنان مالياً واقتصادياً واجتماعياً، لكن شيئاً لم يتعدل في بيروت لجهة أداء الحكومة (الواجهة) ومشغليها، لا في الموقف ولا في منحى العمل. صندوق النقد الدولي بعد 17 جولة من المفاوضات غير المنتجة، حذّر من تأخير تنفيذ الإصلاحات الضرورية، وكذلك محاولات تقليل الخسائر المالية. وقال مدير الصندوق للشرق الأوسط وشمال أفريقيا إن ذلك «لن يؤدي إلا إلى زيادة تكلفة الأزمة، من خلال تأخير التعافي، وإيذاء الفئات الأكثر ضعفاً»!
ميشيل باشليه، مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، حذّرت من أن «الوضع في لبنان يخرج عن السيطرة. بعض اللبنانيين الأكثر ضعفاً يواجهون خطر الموت بسبب هذه الأزمة، علينا التحرك قبل فوات الأوان»!
وزير الخارجية الفرنسي لودريان الذي يزور بيروت خلال هذين اليومين توجه برجاء إلى السلطة: «نحن حقاً نريد مساعدتكم، لكن ساعدونا على مساعدتكم»، والمعنى أن المتاح هو تنفيذ إصلاحات جدية وليس مناورات، وبدا أن العاصمة الفرنسية تشعر باليأس من انعدام الحس بالمسؤولية لدى الجانب الرسمي اللبناني، ومن مماطلة في التعاطي الحكومي مع الأزمة الخانقة! وكشفت الاتصالات مع الجانب الفرنسي استياءً فرنسياً من التعيينات التي تعكس مصالح حزبية شخصية وطائفية، وهي بعيدة كل البعد عن الإصلاح وموجباته!
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أبلغ الرئيس عون نصيحة أخوية، تتمحور حول نقطتين لا يمكن التغاضي عنهما؛ الأولى وجوب القيام بالإصلاحات المطلوبة والإسراع في التجاوب مع صندوق النقد، والثانية ضرورة التزام لبنان قرار «النأي بالنفس» عن صراع المنطقة ومحاورها! وبدا جلياً أن لا قرار عربياً ولا دولياً بتوفير المساعدة للبنان، بدون تأمين هذين العنوانين، وأنه يجب التنبه إلى أن بعض الأكسجين للطوارئ الذي قد يتم مدّ لبنان به، لا يُعول عليه للتعافي، والمقصود هو بعض الدعم للفئات الأكثر حاجة، وللجيش اللبناني بوصفه السياج الأخير للبلد.
بدوره، البطريرك الراعي التقى مع جوهر موقف مجموعة دعم لبنان، فتوجه إلى رئيس الجمهورية الذي أقسم على الدستور، يطالبه بـ«فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني»، بما يعني فك الخناق الذي يضربه «حزب الله» على عنق الشرعية والمؤسسات العامة. وتابع البطريرك الماروني مطالباً بـ«حياد لبنان وعدم تنازل الدولة عن قرارها وسيادتها تجاه الداخل والخارج، وألا يتفرد أي طرف بتقرير مصير البلد»، وكانت الدعوة ملحاحة لتجنيب الانخراط في سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية.
على الأرض، بدا البلد كما وصفته «نيويورك تايمز» وكأنه «يصارع الفقر والفساد وحكومة (حزب الله)». الانهيار يتعمق، مشاهد رجال كبار في السن يتسولون على مفارق الطرق، وكثر نراهم يقتاتون من النفايات، وتتكرر ظاهرة مقايضة مقتنيات خاصة بوجبة طعام، والسؤال الكبير ماذا ستفعل عشرات ألوف الأسر التي باتت في موقع العجز عن دفع بدلات الإيجار، وأين ستجد سقفاً يؤويها، وما العمل مع تسرب نحو 50 في المائة من التلاميذ، وكيف يمكن معالجة أوضاع ألوف طلاب الاختصاص الذين قطعوا تخصصهم في الخارج، بعدما تعذر على أهاليهم تأمين الحد الأدنى الضروري من الدعم المالي، ومع الحديث عن وجود نحو مليون عاطل عن العمل، ماذا ستفعل الأسر التي انعدمت مداخيلها؟
في هذا الوقت، يكشف ألان بيفاني المدير العام لوزارة المالية المستقيل جانباً من أعمال «نخبة المال القذر»، منها قيام أصحاب مصارف بتهريب نحو 6 مليارات دولار بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول)، هذا غير الأموال التي نقلوها إلى الخارج منذ بداية العام 2019. بالطبع هذه الأموال ليست لأصحاب المصارف، بل هي جزءٌ من ودائع المواطنين، وقد سبق لأصحاب المصارف هؤلاء أن قامروا مع حاكم البنك المركزي بالجزء الأكبر، ثم هرّبوا الفوائد، واليوم يودعون هذه الأموال في حساباتهم الخارجية، ولا يتورعون عن إذلال المودع قبل أن يحصل على حدٍ أقصى 100 دولار من أمواله المصادرة!
تزامن ما كشفه بيفاني، مع مناورات مفضوحة من حكومة دياب ومشغليها، الذين تناسوا كلية مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، فانكبوا على ابتداع الأعذار لشطب مسألة التدقيق المالي الجنائي، واختلاق الحجج الواهية لسحب هذه المسألة من التداول. وقفزت الجهات الحكومية، كما كل منظومة الفساد، فوق المطالبات التي رفعتها جهات كثيرة، ولا سيما في الثورة، بأن يشمل التدقيق الجنائي، إلى حسابات مصرف لبنان، حسابات وزارة الطاقة، وحسابات مجلس الإنماء والإعمار؛ حيث يمر أكثر من 80 في المائة من الصفقات والعمليات التي تسببت في المديونية العالية والسطو على ودائع المواطنين في البنوك!
من الواضح أن التدقيق الجنائي ليس ترفاً، بل هو المدخل الحقيقي لكشف الفساد والمتورطين فيه، وإحالتهم إلى القضاء لمحاسبتهم. وكثير من الجهات القضائية والقانونية تؤكد فاعلية هذا الإجراء وصوابيته في تقديم الحقائق التي تعيد الثقة للمواطن بالدولة. وترى في الاعتراض عليه أو السعي لشكل مبتور منه أو «غب الطلب» إنما هو ذرّ رماد في العيون... إنه منحى خطير ومقلق يؤكد اعتزام منظومة الحكم تسجيل الجريمة المرتكبة بحق عموم اللبنانيين ضد مجهول، نعم هم يقرون بالجريمة، لكن النهج المتبع يسعى لحماية المجرم، ويعتمدون في ذلك على الدويلة ونهج اختطاف الدولة، ضاربين عرض الحائط بمحاولة جادة سعت إلى تحقيقها «17 تشرين»، ألا وهي صنع وطن يليق باللبنانيين.
لكن مع العجز عن تقديم أي رؤية إنقاذية، لأنها ستطال مصالح منظومة الحكم، يبقى الخوف الكبير من ارتسام معالم قيام دولة بوليسية، أسّس لها لقاء بعبدا الذي تجاوز كل الانهيارات وتداعياتها، وقدّم الشعارات والذرائع من نوع الحفاظ على الاستقرار ولجم الفتن المذهبية ووضع مدونة أخلاقية لمعاقبة الثائرين لو تجاوزوها!