خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

الفضيلة الغائبة في مواجهة تركيا وإيران

الكائن الحي مبرمج طبيعياً على التفكير بطريقة براغماتية، ليبقى. يأكل إن جاع. يتصارع إن كان لديه فرصة في الكسب، أو إن لم يكن من الصراع مهرب. الإنسان يجرم القتل والسرقة لكي يحمي نفسه من احتمال أكبر أن يكون الضحية. البراغماتية ليست النفعية الانتهازية، البراغماتية هي منبع الأخلاق النافعة على هذه الأرض. حين أراد رافاييل أن يوجز الفارق بين أرسطو البراغماتي، وأفلاطون المتعالي، صورهما يتحاوران: الأول يشير بيده إلى هذه الأرض، والثاني يشير بأصبعه إلى أعلى.
يتخلى الإنسان عن البراغماتية حين يغلب على تفكيره قيم لا تنتمي إلى هذه الأرض. فلا يعود يهتم بعمرانها، ولا تحسين حياته عليها. مفاتيح تشغيل عقله تختلف، فيرى ما ينفعه على هذه الأرض ضاراً، وما يضره على هذه الأرض نفعاً.
لكن عين الغريزة لا تني تنظر إلى الأرض وتتمنى نعيمها، أو أن يفنى نعيمها عن الجميع فلا يعود يغريه. خطوة خطوة يتحول من إنسان يعلن الزهد فيما حوله، إلى إنسان يريد أن يرغم الجميع على الزهد فيما حوله، ثم إنسان يخرب ما حوله، حتى يسهل الزهد عنه، فالزهد فيه.
المزهود فيه، كالطاقة، لا يفنى. سيظل موجوداً وهدفاً لطامع، ولكن بثمن أبخس. من هنا يرى الطامعون في «الزاهدين» فرصة رائعة. ويتحول الزهد في السياسة إلى تجارة يبيعها الزاهدون المحليون، للطامعين الخارجيين.
انظروا إلى «حزب الله» اللبناني، أو إلى «الإخوان المسلمين»، وحلفائهما من اليسار الثوري، وطبقوا هذه المتتالية البسيطة عليهم. انظروا كيف صاروا أدوات، حروف الكيبورد الذي يحركهم فارسية أو تركية. صاروا كحيوان مروض، مستعد أن يأتي لمدربه بجوهرة مقابل تربيتة على رأسه. الحيوان المروض زاهد في الجوهرة، والمدرب يريدها، والعلاقة مستقرة.
أتى الزاهدون للطامعين ببغداد وبيروت ودمشق واليمن وليبيا والصومال، ويريدون تونس ومصر وأرض الحرمين. لا أقول هذا إنشاءً، هذه الدول التي يقولون هم بألسنتهم إنهم ساعون إليها.
ولم ينسوا طبعاً أن يؤكدوا أنهم لم يأخذوا هذا طمعاً، بل محطات ضرورية في طريقهم إلى القدس.
اكتشفنا إذن بعد عقود من الخداع مصيدة «الزهد» السياسية. بفضل أصوات مجتمعية، فهمنا أن غرضهم من كل ذلك كان تحويلنا إلى صورة من أنفسهم، أرض خربة منفرة يزهد أهلها فيها فيسهل حصول الطامعين عليها.
واحتاج الأمر إلى قيادات سياسية شجاعة، كسرت عقوداً من الانهزام النفسي أمام شعارات الدين السياسي. واتخذت خطوات لتجديد الخطاب الديني وتحسين حياة الناس على هذه الأرض، وجعل أرض الوطن تستحق الحياة عليها والحياة من أجلها.
الآن حان الوقت لكسر التابو الآخر الذي ألجمونا به. العلاقة مع دولة إسرائيل.
يستطيع التحالف العربي الدفاع عن أرضه أمام جند إيران في اليمن. وتستطيع مصر الدفاع عن أرضها أمام مرتزقة تركيا في ليبيا. هذا غرض حالي. كل هذه المعارك تدور على حدودنا، دفاعاً عما نملك. بينما مشغلو الأزرار آمنون في بلادهم، ساعون إلى المكسب. هل هذه معادلة قابلة للاستمرار؟
بالطبع لا. هذه معادلة استنزاف. ثغرتاها الأساسيتان الإسلام السياسي، وقضية فلسطين. ولا بد أن نتحرك في الملف الثاني كما تحركنا في الأول. بهدف بناء نطاق آمن عماده الشراكة بين الدول ذات المصلحة، والمعرضة للخطر نفسه. نطاق آمن وليس مجرد حدود آمنة. نطاق آمن يسمح بالتنمية وليس مجرد الدفاع المستنزف عن الثروات الموجودة. المطلوب بناء غرض استراتيجي للمستقبل.
اعتبرت مصر إسرائيل عدواً تقليدياً على الحدود الشمالية. ثم انتقلت من العداء إلى السلام. بفضل شجاعة قائد سياسي قرأ الواقع على هذه الأرض، واتخذ من الخطوات ما يفيد بلده ولو على حساب حياته. قراءة الواقع الآن تخبرنا بالحقيقة التي لا يجرؤ كثيرون على التصريح بها. بالنظر إلى القوى العقائدية من حولنا، فلولا وجود إسرائيل لكان العثمانيون الجدد يحاربوننا الآن من غزة، وعناصر محلية تدعمهم، كما يحاربوننا من ليبيا. لكان الساحل الشرقي للمتوسط صراع نفوذ بين الفرس والروم، في نسختيهما الإسلامية. كما كان طوال قرون في نسخ سابقة.
لقد اكتفينا طويلاً بموقع رد الفعل، بينما الطامعون ينقلون الحريق من مربع إلى مربع على رقعة الجغرافيا، ويقتربون يوما بعد يوم. الآن حان وقت المبادرة. أن نتحرك لننقل الاستقرار والتنمية من مربع إلى مربع. لتزيد رقعة النطاق الآمن، ونبني على التحالف الرباعي الذي كان له الفضل في إحباط خططهم، حتى يومنا.
حل الخلافات السياسية بين حلفاء أسهل من حلها بين خصوم. بناء تحالف شرق أوسطي قوي سيهيج بعض العناصر المحلية الداعمة دعائياً، وهذا لن يضيف جديداً، ولدينا الآن من الوعي ما يمكننا من الرد عليه، شكراً لتركيا عضو الناتو. في المقابل سيحبطهم استراتيجياً، ويردعهم. والتحالف يزيد احتمالات تحسن حياة الفلسطينيين وليس العكس.
ما الذي يمنعنا من هذا التفكير البراغماتي النافع؟ لا شيء سوى ظن أناس أن هناك قيمة تعلو على قيمة الحياة والأمن وتحسين مستوى حياتك. وسوى الانهزام النفسي أمام دعاية الزاهدين في بلادنا، المقدمة إياها رخيصة للطامعين فيها.