جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

استهداف مصر... لماذا؟

التحديات التي تمر بها الدولة المصرية الآن لم يسبق لها نظير خلال قرن مضى، استقرارها أربك حسابات الخصوم، واستعادة قوتها الاقتصادية، وتنوع مصادر تسليحها، أصابا مناعة المتآمرين في مقتل، استهداف القاهرة الآن صار غاية تجمع أطرافاً عديدة على اختلاف مصالحهم، ظنوا أن «بارود» ما يسمى الربيع العربي أنهك جسد الدولة المصرية، صدمتهم إعادة «الروح الشاملة» بقوة وإرادة مضاعفة، حلم إعادة رسم خرائط جديدة لم يكتمل.
حسابات «المختبرات السياسية» جاءت خاطئة، قال أصحاب الأجندات المعادية للدولة المصرية إن القاهرة دانت لهم فور إشعال مؤسسات الدولة بتوقيع عملاء وجواسيس ووكلاء هذه المهمة، سيناريو اختطاف الدولة المصرية ظل جاهزاً للعرض منذ قرن مضى، تباين تقدير لحظة الانقضاض، دق الجرس من آباء الفوضى، لبى أبناؤهم النداء في ميادين عام 2011.
تلاقت الأهواء... كل يغني على «ليلاه»... هنا القاهرة... الصمود والتحدي والإرادة والحضارة الضاربة بعمق 7 آلاف عام، جغرافيا التحديات ترسم خرائط الاستهداف، لماذا استهداف الدولة المصرية؟ وما المطلوب من القاهرة؟ إلى أي مدى صارت المواجهة لعبة صفرية؟ ولماذا أزعج الصمود والثبات المصري كل قوى الظلام ودويلات التمويل والخلافة؟ حسابات الجغرافيا والتاريخ تقول إن هناك دوافع كثيرة لاستهداف الدولة المصرية، مشروع السيطرة على الإقليم ليس له طريق آخر سوى مصر، حكم المرشد فشل في إقناع المصريين بسلامة أفكاره، 30 يونيو (حزيران) حررت الدولة الوطنية من اختطاف محقق، الثالث من يوليو (تموز) عام 2013 أصاب التنظيم الدولي وحلفاءه بعاهة مستديمة، سقطت رهانات المرشد وأعوانه، حاصره الخذلان في الداخل والخارج، لم تفلح حروب القوى الناعمة في تحقيق حلم السيطرة على مفاصل الدولة، في استراتيجية الاستهداف تصدر مشروع تغير الهوية المصرية قائمة أولوياتهم، فشلوا فشلاً ذريعاً، بلد الثقافة والسينما والمسرح والغناء لا يمكن أن يرتدي ملابس الظلام، وطن أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم والسنباطي وزكريا أحمد وصلاح جاهين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس لن تسكن عقله أفكار سيد قطب، تهاوت رهانات الإخوان وتنظيمها الدولي الذي حمل الشعب فواتير فشلهم، الجماعة التي ظلت تروج أنها ستكون المنقذ لو جاءتها فرصة الحكم لم تقوَ على الحوار مع الشعب لمدة عام، نظر أصحاب المشروع في مرآة عام 2011 فطاردتهم ملامح الزيف والخداع والفوضى.
رحل حكم المرشد، وانتصرت هوية الدولة المصرية، أصيب المشروع الإخواني بكسر لا تصلح معه «الجبائر» السياسية، محاولات استرداد الهوية ضاعفت من مساحات الاستهداف، ما يدور في العقل الباطن للجماعة كابوس يطاردهم... ما الذي حدث؟ وكيف فشلت مخططات يناير (كانون الثاني) في مصر؟ كان حلماً فهوى، لا بد من مواصلة الاستهداف، فمصر هي المفتاح إلى الإقليم، وهي حجر عثرة أمام تحريك باقي أحجار المنطقة، وثباتها يعطل تغيير الخرائط، سد قوي أمام الأطماع الخارجية، صعود مصر في شرق المتوسط ضاعف من جغرافية التحديات، دويلة قطر أصابها الذعر من أن تصبح مصر مركزاً إقليمياً لتصدير الطاقة، سر وجود الدوحة يتلاشى مع صعود القاهرة في مجال الغاز، أبناء الجماعة الواحدة تجمعهم المصالح، حزام الاستهداف يوحد أنقرة بالدوحة، يعتقدون أن الحدود الغربية باب لدخول مصر تحت غطاء رئيس الحكومة غير الشرعية في طرابلس، اتفاقية باطلة لترسيم الحدود بين إردوغان والسراج، وتعاون عسكري مشين.
السراج فتح الغرب الليبي لسلطان الدم، أطماع التوغل راودته، تضخمت أحلامه، واعتقد أن الأمر سهل، لم يفهم تكوين القبائل الليبية، غباؤه الشديد أعماه عن تاريخ البلد الذي انتصر على الاحتلال الإيطالي، أغرق الغرب الليبي بالميليشيات والمرتزقة المأجورين، اقترب من حدود سرت وقاعدة الجفرة، حدث نفسه: «لم يبق على الثروات النفطية سوى خطوات، من يسيطر على الهلال النفطي يسيطر على مقدرات الشعب والدولة الليبية، ومن ثم يكون قد اقترب من الشرق الليبي، وتهديد الحدود المصرية الغربية». هنا لا بد من وقفة... كشرت الدولة المصرية عن أنيابها، سرت والجفرة... خط أحمر، الأمن القومي المصري لا يتوقف عند الحدود الجغرافية للدولة، بل يمتد إلى عمقها الأمني، الهدف الرئيسي من دخول إردوغان وحلفائه ليبيا هو الاقتراب من الحدود المصرية.
دوائر التربص تتسع ضد القاهرة. في الشمال الشرقي مواجهات عسكرية مع تنظيمات إرهابية استوطنت منذ حكم المرشد، وفي الغرب يمارس إردوغان وحليفه السراج كل صنوف التجاوز، يحلمان بأن يكون لهما موطئ قدم على الحدود الغربية لمصر، وتيرة التحديات متلاحقة وسريعة، راهنا على انهيار الاقتصاد المصري، فصدمتهما ثبات وقوة وصمود مؤسسات الدولة، حاولا بث الفرقة بين المصريين، فحارا في اصطفاف الشعب خلف القيادة السياسية المصرية، التوقيت فارق في إدارة كل هذه التحديات، إردوغان وحلفاؤه في قطر وتنظيمهم الدولي يرون أن الوقت مناسب للاستفزاز والاستهداف، أديس أبابا تعاند القاهرة أيضاً، وتراهن هي الأخرى على أن مصر مشغولة بمواجهة تحديات شرق المتوسط وليبيا، ومواجهة الإرهاب في حدودها الشمالية الشرقية، كل ينتهز الفرصة باستهداف الدولة المصرية، لكن القاهرة يقظة على جميع الجبهات، إثيوبيا لديها 950 مليار متر مكعب من المياه، أي ثلثا إيراد النهر البالغ 1600 مليار متر مكعب، ترى أن تحقيق حلمها بأن تصبح بنك أفريقيا للمياه، أهم وأفضل من حياة ووجود شعوب أخرى، مثل شعبي مصر والسودان، صلف أديس أبابا يؤكد أن شيئاً ما يدور خلف الأبواب بعيداً عن قضية «السد».
دائماً المتغيرات داخل مصر تعكس الأطماع صوب الإقليم. القاهرة لا تفرط في الأمن القومي العربي، ولن تتخلى عن أي من أشقائها وأهدافها العروبية، ذلك المعنى يوغر صدر الطامعين، الحلم الفارسي في المنطقة لا يريد استقرار القاهرة، التحديات كبرى، واستهداف مصر هو استهداف للمنطقة.