صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

العراق المتمسك بعروبته ضد الطائفية

لم يُبتلَ العراق العظيم على مدى تاريخه الطويل بمثل ما أصبح عليه منذ عام 2003؛ فالتنظيمات الطائفية الإيرانية باتت تتناهشه كتناهش الذئاب الكاسرة للشاة المنفردة، فهناك «حزب الله» الإيراني، الشقيق المذهبي لـ«حزب الله» اللبناني، و«وكيله» حسن نصر الله الذي يبدو أنه أحلّ ضاحية بيروت الجنوبية محلَّ قصر بعبدا، وهناك «الحشد الشعبي» و«عصائب أهل الحق» و«حزب الدعوة الإسلامية» و«عصبة الثائرين» وغيرها من تنظيمات كثيرة، وحيث مع طلوع كل شمس بات يظهر «فصيل» جديد، ولو بشخص واحد، والكل يدّعي أنه حرّر بلاد الرافدين من «بقايا» صدام حسين، وأن من حقه أن يأخذ حصته من هذه الغنيمة!!
كان الخميني، الذي كان يحمل صفة «آية الله العظمى»، قد أقام في العراق لسنوات طويلة بعد خروجه من إيران هارباً من قسوة الشاه محمد رضا بهلوي مروراً بتركيا، وأغلب الظن، بل المؤكد أن النظام البعثي في عهد صدام حسين ومن سبقه، ولو شكلياً، بقي يحتفظ به لسنوات طويلة كـ«تهديد» للنظام الشاهنشاهي، وأيضاً ترضية للشيعة العراقيين الذين ما كانت توجهاتهم مذهبية، بل عروبية وقومية، قبل أن تكون هناك النزعة والظاهرة الخمينية التي انتقلت عدواها إلى بعض الدول العربية!
والمعروف أن الخميني بعد عودته من فرنسا التي أقام فيها في «نوفيل لوشاتو» بدأ يعدُّ لحرب إيران الطويلة ضد العراق، منذ سبتمبر (أيلول) عام 1980 حتى أغسطس (آب) عام 1988، والتي كانت في حقيقة الأمر حرباً إيرانية عربية، حيث كان انحياز العرب بصورة عامة إلى أشقائهم العراقيين، وهذا باستثناء سوريا في عهد حافظ الأسد، وباستثناء عرب آخرين كانوا يتمنّون التخلص ممن يصفونه بالديكتاتور العراقي، ومن حزب البعث الذي كان قد حقّق تمدداً تنظيمياً في كثير من دول العالم العربي.
ولعلّ ما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال أن اللون الطائفي في هذه الحرب كان خافتاً، وإلى أبعد الحدود، وأن الشيعة العرب بصورة عامة، في العراق وفي لبنان وفي بعض الدول الخليجية، كانوا ينظرون إليها، بل يعتبرونها حرباً عربية إيرانية (فارسية)، وحقيقة أن هزيمة إيران في هذه الحرب لم تكن تعتبر هزيمة للشيعة، ولا للمذهب الشيعي، وإنما هزيمة لـ«الفرس» الأكثر تعصباً الذين يعتبرون العرب رغم التاريخ المشترك الطويل معهم أعداء تاريخيين، والواضح أن هذا الاعتبار لا يزال قائماً ومستمراً، والمشكلة أنه انتقل إلى قلة من الأوساط الشيعية العربية، وكما هو واقع الحال وللأسف بالنسبة لشيعة العراق وشيعة لبنان وشيعة بعض دول الخليج العربي، وأيضاً بعض الطوائف التي باتت تُعتبر من أتباع المذهب الشيعي كـ«العلويين» في سوريا وغيرهم!!
وهنا، فإن المشكلة التي اعترضت حركة التاريخ في تلك المرحلة الدقيقة والخطيرة هي أن صدام حسين لم يكتفِ بالانتصار على إيران في حرب الثمانية أعوام، وأنه قد «ركب رأسه»، كما يقال، وبادر إلى غزو الكويت التي لم تبخل عليه بالدعم والإسناد خلال حرب الثمانية أعوام العراقية - الإيرانية، ولعل ما زاد الأمور تعقيداً أن الرئيس العراقي لم يكتفِ باحتلال هذه الدولة الجارة والشقيقة، وأنه أظهر استهدافاً للمملكة العربية السعودية التي كانت ساندته، بل ساندت العراق الشقيق خلال حربه مع إيران التي كانت تطلعاتها في تلك المرحلة حتى الآن تشمل دول الخليج العربي كلها، والتي تمكنت من إلحاق العراق وسوريا ولبنان وبعض اليمن بها، وكما هو واقع الحال حالياً!!
لقد كانت حسابات صدام حسين، التي دفعته لاحتلال دولة شقيقة هي الكويت، ودفعته إلى «التطلّع» نحو دول خليجية أخرى خاطئة، فهو لم يأخذ في عين الاعتبار أن وقوف الأميركيين معه خلال الحرب العراقية - الإيرانية كان يستند إلى حسابات غير حسابات احتلاله لدولة الكويت وتطلعه إلى احتلال دول خليجية أخرى، فالولايات المتحدة كانت تعتبر إيران الخمينية دولة معادية، وكانت تعتبر إطاحة نظام الشاه محمد رضا بهلوي ضربة «استراتيجية» لها. أما بالنسبة للكويت والدول الأخرى التي استهدفها الرئيس العراقي الأسبق بتطلعاته، فإنها كانت ولا تزال تعتبر دول مصالح استراتيجية وحيوية أميركية، ولهذا فإنها في حقيقة الأمر قد بادرت إلى إخراج القوات العراقية من الدولة الكويتية بضربة قاصمة، كانت بداية نهاية هذا النظام في عام 2003، وحيث تم إعدام رئيسه بطريقة مرعبة في عام 2006 بعد سلسلة تحقيقات ومحاكمة طويلة.
إنّ المقصود بهذا كله هو أن كل هذه التشكيلات والتنظيمات الطائفية الفعلية و«الشكلية» لم يكن لها أي دور في إسقاط نظام صدام حسين، وأنها جاءت متأخرة جداً بعد عام 2003؛ إذ إن من أسقط هذا النظام ومن «أعدم» رئيسه هم الأميركيون، الذين يستهدفهم «الحشد الشعبي» و«حزب الله» الإيراني وغيرهما الآن بقذائفهم، والذين تطالب إيران التي كانت قد هُزمت هزيمة منكرة في حرب الثمانية أعوام العراقية الإيرانية بإخراجهم من بلاد الرافدين.
والمفترض أن المرشد علي خامنئي، ومعه «حراس ثورته»، وقبلهم آية الله الخميني نفسه، يعرفون أنه لولا الأميركيون لربما بقي صدام حسين رئيساً لبلاد الرافدين حتى الآن، ولبقي نظامه رقماً أساسياً في المعادلة الإقليمية والدولية أيضاً، ولكان هذا النظام الإيراني غير موجود، ولكان من يحكم هذا البلد الآن هو رضا بهلوي، حفيد رضا بهلوي الجد، الذي لم يجد مؤازروه وأتباعه مكاناً يدفنونه فيه إلا مصر أرض الكنانة، وفي عهد الرئيس الراحل أنور السادات... رحمه الله.
وعليه؛ فإنه لا يحقُّ لكل هذه الأرتال من «المرتزقة» أن يدّعوا أنهم هم من «حرّروا» العراق من «داعش» وغيره من «التنظيمات المعادية» والحقيقة أن كل هذه التنظيمات المذهبية الإيرانية، التي نبتت في هذا البلد الذي لا يمكن إلا أن يكون عربياً، في لحظة تاريخية مريضة، ستنتهي كما انتهى غيرها، وأن إيران ستخرج من هذه المنطقة، كما خرج غزاة ومحتلون كثر، وأن هذه الدول التي يتمدّد فيها الإيرانيون بالطول وبالعرض لن تكون إلا عربية.
ربما أتباع علي خامنئي، وقبله أتباع آية الله الخميني، لم يقرأوا التاريخ جيداً، ليعرفوا أنه كانت هناك دولة صفوية (إيرانية) على رأسها إسماعيل الصفوي، الذي كان دموياً، حيث قتل في ذلك الحين نحو مليون مسلم ولكنه ما لبث أن انتهى نهاية مأساوية، وهذا بالتأكيد سيكون مصير هؤلاء الذين اخترقوا بعض دول العالم العربي طائفياً، وأعادوا للمسلمين النزاعات المذهبية والطائفية التي من المفترض أنهم قد تجاوزوها، على أساس «الوطن للجميع».
وهكذا، فمن الواضح أن مهمة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في غاية الصعوبة، فهذه المجموعات الطائفية التي باتت تجتاح العراق بالطول والعرض قد تتمكن من الانتصار، إنْ لم يكن له إسناد من العراقيين، شيعتهم قبل سنتهم، ومن الأميركيين، وأيضاً من قبل بعض الدول العربية المعنية، فهذا البلد بوضعه الحالي قد ينتهي إلى الانهيار إذا لم يتم إخراج إيران وكل هذه التنظيمات الإيرانية منه، وإن لم يتخلص من هذه الآفة الطائفية التي جاء بها الإيرانيون إليه، وإن لم يكن هناك إسناد عربي فعلي للعراقيين الذين يرفضون الانحياز المذهبي ويرفضون كل هذه التنظيمات المذهبية.