جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

متلازمة الصين

الذين عايشوا فترة حكم الرئيس الأسبق رونالد ريغان للولايات المتحدة، في الثمانينات من القرن الماضي، قد يجدون أنفسهم، رغم اختلاف الظروف، يعقدون مقارنات بينه وبين الرئيس الحالي دونالد ترمب. وقد يشعرون، في الوقت ذاته، كأنَّ التاريخ يعيد نفسه. وفي الحقيقة، فإنَّ التاريخ لا يعيد نفسه، بل البشر من يفعلون ذلك.
إدارة الرئيس الراحل ريغان وضعت نصب أعينها إزاحة ما سماها ريغان «بوابة الشر»؛ الاتحاد السوفياتي، من الطريق، عبر استنزافه وإنهاكه من خلال تصعيد سباق التسلح. بعد مرور 10 أشهر على انتهاء فترة ولايته الثانية في 20 يناير (كانون الثاني) 1989، انهار جدار برلين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، وبعد مرور نحو 3 سنوات انهار الاتحاد السوفياتي في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991. وأعلن المفكر فرنسيس فوكوياما «نهاية التاريخ». ولأنَّ التاريخ لا يعيد نفسه، فإنَّه لا ينتهي كما أراد له فوكوياما. «التاريخ هو الحاضر» كما يؤكد الكاتب الأميركي جيمس بالدوين. وها نحن، منذ بداية عام 2017، نتابع مسلسل إدارة الرئيس ترمب في سعيها لذبح التنين الصيني.
تصعيد الاهتمام بالصين خلال فترة الإدارة الأميركية الحالية لا يعني أنَّ الصين تعرضت للتجاهل من الإدارات الأميركية السابقة. ما فعلته الإدارة الحالية هي أنها أعادت ترتيب قائمة الأولويات، ووضعت الصين على رأسها.
تراجع مكانة موسكو بعد عام 1991، أدَّى لازدياد صعود مكانة بكين وبروزها «لتعيد صياغة نظام دولي لم يعد من السهل تعريفه»... كما أكد ذلك تقرير صادر عام 2010 عن لجنة تقييم السياسات والأولويات الدفاعية، بوزارة الدفاع الأميركية.
التهديد الصيني لأميركا وللأنظمة الديمقراطية في الغرب تتأكد ملامحه وضوحاً كل يوم. ومحاولة السيطرة عليه وإخضاعه لا تختلف عن محاولة السيطرة على جنّي أسطوري أفلت من قُمقمه بعد قرون. وما يجعل التنين الصيني مخيفاً، أنه ماركسي آيديولوجياً، وبأنياب نووية وبقوة ضاربة عسكرياً، وكثافة سكانية هائلة، وبأطماع توسعية في الجوار براً وبحراً، ولم تعد سرّية، ويمتلك «حق النقض» في مجلس الأمن الدولي بالأمم المتحدة، ويحظى بقوة اقتصادية ومالية وتكنولوجية ضخمة، كما يحظى بسوق داخلية هائلة يصل عدد مستهلكيها إلى 1.4 مليار، وليس من السهل وقف زحفه المسرع من بلد إلى آخر، ومن قارة إلى قارة، أو قفل الأبواب أمام غواية أموال استثماراته... والأجدر بالملاحظة هو أنه يؤمن بأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً صينياً بامتياز، وبلا منافسة.
ووفقاً لإحصاءات ومصادر إعلامية؛ «منذ عام 1979 تضاعف الناتج الإجمالي المحلي الصيني كل 8 أعوام. وقد يتباطأ النمو في بعض السنوات، لكن حتى خلال ذلك يتوسع النمو الاقتصادي بسرعة مضاعفة مرتين على الأقل أكثر من نظرائه من الاقتصادات الغربية مثل أميركا قبل حلول الأزمة الوبائية».
السؤال الآن هو: كيف ستتمكن أميركا ودول الغرب من وقف الزحف الأحمر، في ظل الظروف السياسية والاقتصادية المخيّمة، حالياً، على العالم الغربي؟
يتحدث المحلل الاقتصادي البريطاني أوليفر شاه، من موقعه في شرفة تطل مباشرة على المشهد الأنغلو - أميركي، عمّا أطلق عليها «متلازمة الصين».
«المتلازمة (Syndrome)» لغةً تعني «مجموعة أعراض متزامنة تظهر باستمرار معاً، أو حالة تتميز بمجموعة من الأعراض المرتبطة بها». وفي سياق التحليل، فإن «متلازمة الصين» تتمثل أعراضها في تقسيم العالم إلى قسمين؛ قسم تمثله الحكومات، وآخر تمثله الشركات. وكل قسم ينظر إلى الصين من منظار خاص، وبحسابات مختلفة. الحكومات؛ أميركا وبريطانيا وغيرهما، ترى في الصين تهديداً خطيراً، في حين أن الشركات ترى فيها سوقاً مربحة وشريكاً اقتصادياً لا غنى عنه. وليس أمام الفريقين سوى التنافس للحصول على دعم المواطنين. لكن كلمة مواطن في الغرب، في هذا السياق، تعني شيئين مختلفين؛ ناخباً ومستهلكاً. السياسي يتوجه للناخب. ورجل الأعمال يستقطب المستهلك. الأول يحرضه ضد الصين بتركيزه على ما تمثله من مخاطر وتهديدات. والثاني يستميله للتعاون مع الصين لأن مصلحته الاقتصادية تستدعي ذلك.
هذا التقسيم ربما يقربنا جداً من اللوحة الأنغلو - أميركية المتشكلة حالياً في واشنطن ولندن. إدارة ترمب بأجندتها المعلنة ضد التوغل الاقتصادي الصيني في العالم، ووراءها يتوحد الحزبان الجمهوري والديمقراطي. وعلى الضفة الأخرى من الأطلسي يدعمها في لندن جناح قومي يميني في حزب المحافظين الحاكم يعلّي من شأن القيم مقابل المنافع الاقتصادية في الموقف من الصين، وهو التيار نفسه الذي كان في مركز المطالب بخروج بريطانيا من «بروكسل»، في حين أنه على ضفة رجال الأعمال والشركات تصطف شخصيات معروفة في عالم التجارة والمال، تقود شركات عالمية ضخمة، وعُرفتْ، خلال السنوات الماضية، بمعاداتها لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتجادل بأن التعامل مع التنين الصيني بغرض التأثير فيه أفضل من ذبحه.
التنافس بين الفريقين يزداد شدة، حيث يسعى كل فريق إلى الحصول على دعم المواطنين (الناخبين - المستهلكين) واستقطابهم إلى ضفته. وحتى الآن لم تتمكن الشركات ورجال الأعمال من تقديم حجج وأدلة قادرة على استقطاب المستهلكين إليهم، وإقناعهم بضرورة الحفاظ على جسور التعاون الاقتصادي مع الصين مفتوحة.