مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

لماذا نجحت حملة راشفورد؟

أحرج لاعب فريق مانشستر يونايتد، ماركوس راشفورد (22 عاماً)، الحكومة البريطانية التي توقفت عن دفع ثمن وجبة غذاء الأطفال الفقراء هذا الصيف، وذلك عندما قام بحملة ضد سياسة حكومة بوريس جونسون، وجعلها تستدير 180 درجة، وتقر مبلغ 120 مليون جنيه إسترليني لوجبات الأطفال الفقراء في الصيف. ولم تكن تلك الحملة الأولى التي يقودها راشفورد، والتي تدل على ضمير حي، فقد شارك بماله في دعم الأطفال الفقراء أكثر من مرة من قبل، وبنى مؤسسة خيرية لدعم الأطفال المحتاجين، وتعلم لغة الإشارة لدعم الأقل حظاً. السؤال الذي يهمنا هو: لماذا نجحت حملة راشفورد في تغيير سياسة الحكومة؟ كيف أجبر شاب في أوائل العشرينات من العمر الحكومة البريطانية والبرلمان على التراجع؟ وما العوامل التي أدت إلى نجاحه؟ وهل لو كان راشفورد عندنا، كان سيكتب لحملته النجاح؟ أطرح هذه الأسئلة حتى لا نغرق في الظن أن النجاح كله يحصل لشخص راشفورد وحده، رغم أهمية المبادرة الفردية. هناك أربعة عوامل تضافرت لصناعة هذا النجاح، راشفورد واحد منها.
بداية الفهم هي أن راشفورد مواطن تخلص من فكرة العار، وتحدث عن الفقر بمصداقية، تحدث عن حياته طفلاً فقيراً، وعن والدته التي نهضت بتربيته منفردة دونما أب، وعن أنه كان واحداً من هؤلاء المليون ومائتي طفل في المملكة المتحدة الذين يسجلون أسماءهم لتلقي وجبة مجانية في المدارس؛ الحديث الشخصي الصادق لراشفورد هو العمود الأول في بناء حملته ونجاحها.
كان راشفورد بليغاً عندما ذكر الصحافة التي احتفلت بهدفه الذي أخرج باريس سان جيرمان من بطولة كأس أبطال أوروبا أن فريقه في النهاية لم يحصل على البطولة؛ قطع مرحلة، ولكنه فشل في حمل الكأس. وكذلك هو الحال في مكافحة الفقر، تلك هي البطولة التي يود الشاب أن يحمل كأسها، بطولة القضاء على الفقر. وبالفعل، الفقر هو الجائحة الأكبر في العالم، وقد كتبت في هذه الصحيفة في بداية جائحة «كورونا» أن الفقر والجوع هما الوباء الأول في هذا العالم (وللجوع لقاح، «الشرق الأوسط»، 20 مارس/ آذار 2020). الجوع يقتل تسعة ملايين سنوياً، معظمهم من الأطفال.
مصداقية التجربة الشخصية للاعب الإنجليزي الذي لم يخجل من بداياته طفلاً فقيراً، ومصداقية عمله - لا كلامه - في مواجهة الفقر بعد أن أصبح لاعباً مشهوراً، هي التي أعطت رسالته الزخم المطلوب. هذا هو العامل الأول الأساسي في نجاح الحملة، ولكن هل المصداقية وحدها تكفي؟
العمود الثاني الذي ثبت رسالة ماركوس راشفورد وجود جمهور واسع يتسم مزاجه بالعدل، بصفته فكرة أساسية، فهو من أيد هذه الرسالة ودعمها. الفكرة قد تجهض ما لم يكن هناك جمهور يتلقى الرسالة ويقف خلفها. في المجتمعات الديمقراطية التي أساسها جمهور الناخبين، يكون دعم الجماهير لأي فكرة هو الأساس لاستجابة الحكومة ونواب البرلمان، إذا أرادوا العودة إلى مقاعد الحكم مرة أخرى. فرفض البرلماني أو رئيس الحكومة لمطلب شعبي يجعلهما يخسران الانتخابات في المرة المقبلة، وهذه مقامرة أو مخاطرة لا يستطيع أي منهما تحمل تبعاتها إذا ما فشلت. الجمهور الذي صدق رسالة ماركوس ودعمها كان أساسياً في نجاح حملته لإجبار الحكومة على تغيير سياستها.
العمود الثالث في تثبيت خيمة رسالة ماركوس لصالح الأطفال الفقراء هو إعلام بريطاني يناقش ولا يشوه؛ ناقش الإعلام البريطاني رسالة اللاعب الإنجليزي، ولم يتهمه بالعمالة لأجندة أجنبية، خصوصاً في سياق المظاهرات التي انطلقت بعد أن قتل البوليس الأميركي في ولاية مينيسوتا الشاب الأسود جورج فلويد. فلم ير الإعلام البريطاني ماركوس راشفورد لاعباً أسود، ولم يضع حملته ضمن سياق جورج فلويد، بل رآها حملة ضد الفقر، ولصالح الأطفال الفقراء الذين كان راشفورد واحداً منهم. لم يتهم الإعلام البريطاني راشفورد بأنه عميل لجهة أجنبية يريد إسقاط الحكومة، ولم يتهمه أحد بأنه طالب شهرة، ولم يشهر الإعلام بفقره، ولم يتطرق إلى الحديث عن والدته إلا بإعجاب وفخر برحلة كفاحها لتربي لاعباً بهذه القوة الأخلاقية العالية. الإعلام كان داعماً لحملة راشفورد لصالح الأطفال الفقراء، ولم يكن أبداً مشككاً في نواياه.
وأخيراً، كان العمود الأساسي في نجاح الحملة هو وجود حكومة تستحي من سياساتها أمام شعبها، وتستجيب للنداء، وتخصص المبلغ المطلوب لوجبات الأطفال الفقراء. وتستجيب الحكومات والبرلمانات في الأنظمة الديمقراطية لمطالب شعبها ليس لمجرد كرم أخلاق من القائمين على الحكم، برلماناً وحكومة، ولكن لأنها ملتزمة بمطالب من أتوا بها إلى مقاعد الحكم. فإن لم تستجب الحكومة، أو لم يستجب البرلمان، لمطالب من انتخبوهم، فمصيرهم الشارع في الدورة المقبلة من الانتخابات. في الديمقراطيات، الحكومات تستحي أو تخاف على بقائها فتستجيب. أما في الديكتاتوريات التي لم تأتِ بها أصوات الانتخابات إلى الحكم، بل فوهة البندقية، فلا جميل لأحد عليها، وهي ليست مضطرة للاستجابة لمطالب شعب لم ينتخبها.
فماذا لو كانت حملة راشفولد ضد الفقر عندنا؟ هل كانت ستنجح؟ اللاعب في بلادنا يخجل من الحديث عن تجربة الفقر، فنحن مجتمعات يحكمها العار، وترى الفقر عاراً. ومن هنا، لم يكن لنا أن نصدق رسالة كرسالة ماركوس راشفولد لأنها ستفتقد مصداقية التجربة الشخصية. أيضاً، لم يكن للإعلام الخاضع للدولة بمعظمه أن يؤيد هذه الرسالة دونما التشكيك في النوايا، ومحاولة التشويه من قبيل: هل ينتمي ماركوس إلى تنظيم ما؟ وهل تموله جهة ما لإحراج الحكومة؟ وما دوافعه؟ هل لأنه فشل في الملعب يريد أن ينجح اجتماعياً؟ واللافت للنظر أن الجمهور ينساق وراء هذا التشويه، ويصدق حكاية الإعلام. والحكومات طبعاً، في سياق مختلف، لا يعنيها اللاعب أو جمهوره، لأنهم ليسوا من أتوا بها إلى الحكم.
دعوة ماركوس راشفولد تنجح في بيئتها لأنها نتاج هذه البيئة المختلفة التي تحمل هذه الدعوة على أسس متينة، ولن تنجح عندنا دعوات مماثلة لأنها ستكون بنياناً بلا أعمدة.