خلقت المظاهرات التي اندلعت في طول الولايات المتحدة وعرضها إثر وفاة المواطن جورج فلويد تقاطعات مشهودة بين مختلف تيارات المجتمع الأميركي، من حيث الأفكار الجديدة المطروحة بشأن إصلاح جهاز الشرطة، إلى التركيز المتزايد على الأضرار الصحية والاقتصادية العميقة والمتباينة التي يعاني منها المواطنون الأميركيون الأفارقة إثر تفشي وباء كورونا المستجد في البلاد. ومن ثم، نشأت حالة من الاضطرابات المتصاعدة إثر التفكير في استدعاء قوات الجيش لاحتواء الاحتجاجات العارمة.
خرج عدد من جنرالات الجيش وأدميرالات البحرية عن صمتهم المتحفظ مؤخراً، وأعربوا صراحة عما يساورهم من قلق شديد بشأن استدعاء القوات المسلحة الأميركية، وإلحاقها بجهود حفظ النظام وإنفاذ القانون في البلاد، فضلاً عن الاستعانة بقانون العصيان المدني لتفويض قيامهم بتلك المهام. كما كان استدعاء وحدات من الحرس الوطني لتأمين المنطقة المحيطة بالبيت الأبيض، من أجل جلسة التصوير الخاصة بالسيد الرئيس من التصرفات المثيرة للقلق كذلك وبدرجة كبيرة.
عكس التماهي الملاحظ بين مختلف التعليقات الواردة عن مجتمع كبار الجنرالات والأدميرالات تجربة من التجارب الرائعة للغاية. ولم يسبق لي أن شاهدت إجماعاً للآراء بشأن أي قضية سابقة كمثل هذه القضية الراهنة والساخنة، لا سيما فيما يتصل بالأوضاع الداخلية المحتدمة في البلاد بصورة أساسية. وعلى نحو مفاجئ، انطلقت آراء وتعليقات كثير من الضباط المتقاعدين الذين كانوا متحفظين تماماً عن الإدلاء بآرائهم الشخصية علانية حتى وقت قريب. وكان من بين هذه المجموعة من كبار الضباط المتقاعدين الجنرال جيمس ماتيس والجنرال جون كيلي من مشاة البحرية الأميركية، اللذين خدما البلاد في منصب وزير الدفاع ومنصب كبير موظفي البيت الأبيض على التوالي في عهد الرئيس الحالي دونالد ترمب.
كما أعرب عدد آخر من الضباط المتقاعدين، من الذين يواصلون كيل الانتقادات إلى الرئيس ترمب، عن آرائهم كذلك، ومن بينهم جنرال القوات الجوية مايكل هايدن وأدميرال القوات البحرية ويليام ماكرافين، اللذين كتبا معلقين: «يدرك كل رجل وامرأة ممن يرتدون الزي العسكري أننا جميعاً مواطنون أميركيون، وأن آخر شيء يريدون القيام به بصفتهم العسكرية الواضحة هو الوقوف في طريق الاحتجاجات السلمية في البلاد».
وهناك أصوات عسكرية أخرى اشتملت على الجنرال ويسلي كلارك والجنرال باري ماكافري (وهما من كبار الجنرالات الحاملين لرتبة النجوم الأربع في التاريخ العسكري الأميركي الحديث)، وإلى جانبهم يأتي الأدميرال مايك مولن الرئيس الأسبق لهيئة الأركان الأميركية المشتركة. وإنني على معرفة جيدة للغاية بكل هؤلاء الجنرالات والقادة، وأعتبرهم من كبار المعلمين والمرشدين.
يؤدي كل فرد من أفراد القوات المسلحة الأميركية قسماً رسمياً بسيطاً في كل مرة يترقى فيها إلى رتبة جديدة: «دعم دستور الولايات المتحدة والدفاع عنه ضد كل الأعداء في الخارج والداخل».
وبالنظر إلى لفظة «الداخل» من القَسَم نجد أنها لا تعني أبداً تحول أفراد الخدمة العسكرية إلى أداة نافذة لفرض وتطبيق القانون. إذ يساور الجنرالات والأميرالات، الذين أشرت إلى أسمائهم آنفاً، المزيد من القلق بشأن الأضرار التي ربما تلحق بالدستور الأميركي جراء الاستعانة بأفراد الخدمة العسكرية العاملة في قمع وإخماد الاحتجاجات الشعبية التي يحميها التعديل الأول من الدستور الأميركي بالأساس. ولا يرغب أي منا في رؤية القوات المسلحة الأميركية تنجرف ضمن تيار الموسم السياسي المحتدم للغاية في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الجاري.
وكان الآباء المؤسسون يخشون كثيراً من فكرة وجود جيش قوي وقادر وكبير يجري استخدامه داخل وليس خارج حدود البلاد. وكانت هذه الفكرة في جزء منها ناجمة عما عاينه الآباء المؤسسون بأنفسهم مع القوات البريطانية إبان الفترة التي سبقت اندلاع الحرب الثورية في البلاد.
الأمر الذي أسفر على وجه التحديد عن اقتضاء تمرير التعديل الثالث على الدستور الأميركي، الذي يحظر الإيواء القسري للقوات العسكرية في المنازل الخاصة بالمواطنين.
وجاء قانون «بوزي كوميتاتوس» لعام 1878 - أو القانون الأميركي المعني بالأعمال العسكرية الداخلية - ليحدد من استخدام القوات المسلحة داخل البلاد، وهو القانون الواجب لزاماً احترامه من قبل الجميع، وفي كل الظروف باستثناء الظروف الطارئة الأكثر قهراً أو تطرفاً.
يحمل رجال ونساء القوات المسلحة الأميركية - الذين يربو عددهم على 1.2 مليون جندي من القوات العاملة - واجباً رسمياً ومقدساً ليس تجاه أي شخص أو مواطن بعينه، وإنما تجاه دستور الولايات المتحدة. وخلال الشهور القليلة المقبلة، لا ينبغي أن نراهم وهم يرتدون قبعات الدعاية الانتخابية المؤيدة للمرشح الجمهوري دونالد ترمب أو شارات الدعاية الأخرى الداعمة لمنافسه الديمقراطي جوزيف بايدن.
يجدر بكبار الضباط المتقاعدين مواصلة الإفصاح عن معتقداتهم والإعراب عن صريح آرائهم - وليس دعماً لمرشح أو حزب بعينه أو ضداً لمرشح أو حزب آخر، وإنما لدق نواقيس الخطر والإنذار المبكر بشأن المخاطر الهائلة المتمثلة في جر المؤسسة العسكرية إلى أبعد مما هو راهن في مجريات السياسة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:2 دقيقه
TT
المؤسسات العسكرية ومجريات السياسة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة