مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

غزو عثماني في وضح النهار

في الوقت الذي تتباهى به الدول وتحتفل باستقلالها وتطرد الغزاة والمستعمرين يطل علينا من يخالفون هذه الفطرة البشرية الرافضة للاستعمار. إن المفارقة لمذهلة جداً، فها هي حكومة الوفاق ذات الميول الإخوانية تمنح بلادها لمستعمر غاشم، بينما يناضل الليبيون الشرفاء وجيشهم الوطني لمنع وقوع كارثة تحل بالشعب الليبي بالاستيلاء على مقدراته من قوة أجنبية، فها هو الجيش الليبي على غرار ما فعله أسلافه ضد المستعمر الإيطالي ينتفض ضد العثمانيين الجدد ليعيد لبلاده كرامتها المباحة. ومع هذا التدخل السافر من الأتراك بات من حقه أن يطلب مساندة دولية، فالبلاد تتَّجه للتقسيم الذي ظهرت ملامحه من خلال أذناب تركيا من التنظيم الإخواني المعروف بظلاميته وأفكاره الإقصائية وماديته.
وها هي الأحداث تتتابع بانتظام كما خُطط لها بعد تعهد تركي جاء مؤخراً على لسان الرئيس رجب طيب إردوغان، بزيادة الدعم لحكومة فائز السراج في طرابلس، وهذا الإجراء من شأنه أن يعزز دور التعاون بينهما، لكن التعهد لم يأتِ من دون مقابل، إلا بضمان حقوق أنقرة وأطماعها في الموارد الطبيعية الليبية شرق البحر الأبيض المتوسط، وخلال هذه الرغبة الجامحة المتأججة، لن يتوقف سعي إردوغان لتوسيع عمليات التنقيب عن النفط والغاز في حقول جديدة، بحكم دوره كأداة فعالة في تنفيذ سياسة عالمية أكثر انتظاماً وتنسيقاً رغم الاعتراضات من بعض الدول العربية والغربية. وها هو الآن يناقش مسألة التنقيب في المناطق البحرية، حيث قال: «قررنا القيام بعملية التنقيب بموجب مذكرة التفاهم الموقّعة مع حكومة السراج في هذا المجال». في إشارة إلى مذكرة التفاهم الخاصة بتحديد مناطق النفوذ في البحر المتوسط، والتي وقّعها مع السراج في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
تتداخل الحدود وتتشابك العصابات والمرتزقة على أرض دولة لها سيادة، إلى حد يصبح فيه خليط من الإرهابيين يقودهم مستعمر غازٍ ليصبح بطلاً يخدم أجندة مختلفة مدفوعة بكراهيتهم لكل العرب، والأكثر غرابة هو صمت المجتمع الدولي الذي أعطى فرصة لتمدد الإرهاب التركي، فلم تعد معركة «ليبية ليبية، وإنما ليبية تركية»، نعيدها ونرددها بعد قول المسماري وقادة الجيش الليبي.
لقد ارتسم كل شيء من جديد وأصبحت الآلام والفظائع خيارات ومناخات مسكونة ومألوفة، وهذه المؤشرات تقول إن الاستهداف التركي لمناطق يكتظ بها مدنيون وقتلهم بالطيران المسيّر لم نسمع حوله قرار دولي مؤثر، والأمم المتحدة لم تولِ هذا التعدي اهتماماً يُذكر، ولا تدين تركيا التي لم تحترم القانون الدولي الإنساني.
وحين يعترف الجيش بأنه انسحب من ترهونة «لتجنيب المدينة الدمار»، وأن القوات وصلت إلى منطقة آمنة بعد انسحابها من ترهونة الغارقة في الفوضى، وأن «على المجتمع الدولي تحمل مسؤولياته» بعد وقف إطلاق النار والانسحاب، فإن مرتزقة إردوغان والسراج سيطروا عليها بقوة السلاح ولم يتقيدوا بأي التزام، ولو أدرك هؤلاء أن الفوضى لن تتغلب على الشرعية الدولية، ولن تتخذ أي قيمة في آخر المطاف لعادوا إلى رشدهم، لا أن يعيثوا في المدينة تدميراً.
وإنه لمن أسباب الغرابة والعجب العجاب، أن تجلب حكومة الوفاق المستعمر التركي إلى أرضها وهي تعي تماماً أطماعه في ليبيا، بل وتفتخر بأنها فتحت الباب لهم للعبث بتاريخ الشعب الليبي ومستقبله وثرواته، واكتمل بذلك مشهد الخيانة لليبيا والأمة العربية بتمويل قطر للمستعمر التركي ومرتزقته بضخهم المليارات في البنوك التركية، فكل منهم يتشبث بسوء طالعه قدر مستطاعه. وقد كتب التاريخ عن الخونة تلك الخطيئة التي هزمت كل الغايات، والأخطاء التي ارتكبوها بحق الشعوب فتبلغ بنا الدهشة حد التساؤل: إن لم تحاكم الآن تركيا وقطر، فكيف ستترك الأجيال القادمة سُرّاق الأوطان ومدمريها من دون عقاب؟
لكن ننتظر نتائج مبادرة جديدة أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن ليبيا تحت اسم «إعلان القاهرة»، تتضمن تشكيل مجلس رئاسي منتخب، ووقف إطلاق النار ومدى التزام كل الجهات الأجنبية بإخراج المرتزقة الأجانب من ليبيا، وتفكيك الميليشيات وتسليم أسلحتها للجيش الليبي، إلى جانب استكمال مسار اللجنة العسكرية 5+5 في جنيف.
فإذا كانت الأحداث تتجاوزنا فلا شيء يُقارَن بانبثاق الكرب لحظة اليقظة، بعدما سادت الفوضى في الدول العربية المنكوبة، فقبل أن نكتفي بالانتظار، طالب نشطاء ومؤسسات المجتمع المدني في طبرق الليبية «جامعة الدول العربية»، والاتحاد الأفريقي باتخاذ إجراءات صارمة تجاه التدخل التركي السافر، كي لا يرتكب الكثير جريمة الصمت فتمضي الأيام وعلى رأسها الحياة، وقد فات معها منح الأشياء ظلاً من الواقع على أقل تقدير.