فاي فلام
TT

حول الاحتباس الحراري والبطالة والفقر

شكّل فريمان دايسون مفارقة في حد ذاته؛ فلقد كان من أبرز علماء الفيزياء وألمعهم، ومن أكبر ناشري العلوم الذي لم يساوره القلق قط بشأن ظاهرة الاحتباس الحراري. بل كان جُل قلقه واهتمامه منصباً على الفقر من التغيرات المناخية، وألحق نفسه بزمرة العلماء الذين اتخذوا لأنفسهم مسمى «المنكرون» في التحذير من أن فرض القيود على الوقود الأحفوري سوف يُلحق الأضرار ببلدان العالم النامي.
وكان أي شخص عادي يعرب بنفسه عن مثل هذه الآراء سوف يعتبر من المنكرين للحقائق العلمية الثابتة. بيد أن العالم دايسون كان جزءاً لا يتجزأ من العلم. وفي ريعان شبابه، تمكن من حل المشكلات الرياضية الصعبة التي منحته حق الدخول إلى مجتمع علماء الفيزياء بدون الحاجة إلى الحصول على درجة الدكتوراه.
لقد توصل علماء الكون إلى استنتاج بأن الكون سوف يواصل الاتساع والتمدد، ويتحول إلى كيان أكثر قتامة وموحش للغاية مع تحلل كل شيء حي إلى أكوام من الجزيئات فاقدة الهدف. أما بالنسبة إلى دايسون، فإن هذا لا يعني نهاية العالم، بل وضع قابل للتحكم فيه من وجهة نظره.
فلقد تصور أن البشر والحضارات المتقدمة الأخرى سوف تحصد الطاقة الشمسية من خلال بناء غلاف هائل الحجم لاستخلاص الضوء، أو بناء غلاف حول الشموس، فيما صار يُعرف في أوساط العلماء باسم «غلاف دايسون».
حينها سألته، ماذا سوف نفعل عندما تنهار نجوم الكون كافة وتتحول إلى رماد محترق؟ فأجاب قائلاً: «لا مشكلة، لا داعي للقلق من احتراق أو انهيار النجوم من حولنا. فلكي نغطي احتياجاتنا من الطاقة، فأي جسم من كتلة عالية سوف يفي بالغرض». وقال، إن الجاذبية هي المصدر الأكثر وفرة للطاقة، ويمكن لأشكال الحياة الذكية في المستقبل أن تحصل على الجاذبية المرتبطة بالنجوم الميتة الكثيفة كافة.
واستطرد دايسون: «إنها مشكلة هندسية بالأساس. ولن تكون معضلة كبيرة على أشكال الحياة الذكية التي سوف تكون قد تجاوزت تريليونات السنوات من التطور وما يلزم ذلك من العلوم والحكمة. كما أن هناك مشكلة تبخر الثقوب السوداء في الكون. وهو ما تنبأ به العالم البريطاني الراحل ستيفن هوكينغ. ومع ذلك؛ فهذا لا يعني أبداً نهاية العالم، فإذا ما واصلنا تغذيتها، فسوف يمكننا الحفاظ على استمرار الثقوب السوداء».
ليست هذه بكلمات شخص يميل إلى الإنكار. فلقد فكر ملياً في كل ذلك - وتتسق خططه الخاصة للنجاة مع قوانين الفيزياء المثبتة علمياً. وبالتالي، فليس من المستغرب أن الانزعاج البشري العارض من تركيبة الغلاف الجوي لكوكب الأرض لا يمثل أزمة على الإطلاق، وإنما هو تحدٍ.
لقد فكر العالم دايسون جيداً في شأن ظاهرة الاحتباس الحراري - وكان جوابه مجرد زراعة تريليون شجرة، وهو الاستنتاج نفسه الذي توصل إليه بعض الباحثين في مجال المناخ وناله الكثير من الضوضاء والضجيج الإعلامي في الصيف الماضي. وحذر الخبراء من أن مجرد زراعة الأشجار ليس حلاً كافياً لمنع ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض إلى مستويات خطيرة، وإنما هي جزء ضروري من عملية تخفيف آثار الاحتباس الحراري.
سواء اتفق علماء البيئة أو اختلفوا مع توصيف دايسون لهم، فهذا أمر يتسع لأجله النقاش؛ فلقد أشار الكثيرون منهم إلى أن ارتفاع منسوب سطح البحر مع حالة التحميض الجارية في مياه المحيطات لن يؤدي إلى تشريد الناس (الكثير منهم فقراء) فحسب، وإنما يهدد إمدادات الغذاء المهمة للبشرية بأسرها. وربما يتساءل آخرون ما إذا كان يتحتم علنا واجب إعادة هيكلة الطبيعة على كوكب الأرض من أجل النجاة والبقاء.
غير أن طرح دايسون بأن ما نقوم به إزاء ظاهرة الاحتباس الحراري لا يستند إلى البيانات فحسب، وإنما على المعتقدات الفلسفية العميقة، فهي من النقاط المستحقة للمزيد من المناقشة. ربما لا يكون تفاؤله صحيحاً من الزاوية السياسية، لكنه ينشر نزراً يسيراً من الضوء على الأوقات والأوضاع والأزمان القاتمة الكئيبة التي تغمر كل شيء من حولنا.
*بالاتفاق مع «بلومبرغ»