زاهي حواس
عالم آثار مصري وخبير متخصص بها، له اكتشافات أثرية كثيرة. شغل منصب وزير دولة لشؤون الآثار. متحصل على دبلوم في علم المصريات من جامعة القاهرة. نال درجة الماجستير في علم المصريات والآثار السورية الفلسطينية عام 1983، والدكتوراه في علم المصريات عام 1987. يكتب عموداً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» حول الآثار في المنطقة.
TT

الحاج أحمد يوسف

قد لا يعرف أحد هذا الاسم، ولكنه عبقري زمانه، فقد استطاع أن يرمم مركب الملك خوفو، الذي تعرض حالياً داخل متحف جنوب الهرم، وسوف ينقل إلى المتحف المصري الكبير. وقد عرفت هذا الرجل العظيم عندما وصلت إلى مكتبي بمنطقه الهرم عام 1973، وقد سمعت عن الحاج أحمد في قصص وحكايات غير قليلة، ترفعه إلى العلا، وتجعله أعظم مرمم في العالم العربي، لذلك فقد تركت مكتبي وذهبت إلى الاستراحة التي يقيم فيها هذا المرمم العظيم، وكانت عبارة عن موقع رائع على إحدى حوافّ هضبة الجيزة يعيش فيها كراهب في محراب العلم.
وعندما قابلته، وجدت أنه رجل ذو وجه بشوش، ورحّب بي بحرارة رغم صغر سني. وانتابني الفرح لأن الرجل أعطى لي هذا الاهتمام، وعندما قال: «خير أنا تحت أمرك» قلت له: «أنا المفتش الجديد». وكانت هذه أول مقابلة لي مع هذا العظيم، وبعد ذلك صار صديقاً لي، وكنت أزوره وأجلس معه يومياً، فقد تعلمت منه كثيراً، فكان كالنهر تستطيع أن تنهل منه من دون أن يجف، وكان لهذا الرجل كثير من المهارات، فهو يقوم بالتصوير والتحميض داخل معمل صغير في الاستراحة، وكان نجاراً فريداً من نوعه يُخرج تحفاً رائعة، مثل تلك التي أنتجها زميله الفنان المصري القديم. وكان مرمماً لا مثيل له، ولن تنجب مصر رجلاً يضاهيه، فقد كان رجلاً ذا أيادٍ ذهبية تعرف أن تعيد التماثيل إلى حالتها، والعقود إلى جمالها، والخشب إلى حالته الطبيعية، هذا بالإضافة إلى أنه كان يستطيع تقليد الآثار بطريقة يصعب معها التفريق بين المقلد والحقيقي. وهناك قصص شهيرة استطاع أن يكشف فيها عن قلة علم بعض العاملين في مجال الآثار.
ما أعجبني في هذا الرجل هو شخصيته، فكان قوي الشخصية، يحترم نفسه كثيراً ولا يخاف من أحد، ولا يقبل أوامر من أي إنسان. وكان يعمل في ذلك الوقت في ترميم مركب خوفو، وكان يقيم في الهرم بصفة دائمة، ورغم إنهاء ترميم المركب فلم يكن مفتوحاً للزيارة. وكان يحضر كثير من الشخصيات لزيارة المركب، وعندما كان يحس الحاج أحمد أن الزائر لا يحترم الأثر، كان يرفض فتح المكتب، وحدثت أزمات كثيرة بسبب ذلك، وكان الراحل جمال مختار، رئيس الآثار في ذلك الوقت، يقول: «أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً تجاه الحاج أحمد، لأنه لو ترك المركب فلن نجد شخصاً واحداً في العالم يستطيع أن يكمل هذا العمل الجبار».
وقابل الحاج أحمد ملوكاً وملكات، وكان يشرح باللغة العربية، وكنت أقوم بالترجمة، وهو الذي قدّمني للراحل العظيم كمال الملاخ، الكاتب الذي استطاع أن يجعل القارئ يقرأ «الأهرام» من الصفحة الأخيرة، وهو مكتشف هذه المراكب، وصرت صديقاً للاثنين، ولكن كانت تحدث أزمات كثيرة بينهما. وسافر إلى أميركا لإلقاء محاضرات، وأطلقوا عليه اسم الفرعون المصري، بل قالوا في أميركا إن هذا الرجل من سلالة الفراعنة، لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يعيد آثار الفراعنة إلى حالتها الأولى، وعندما جاء إلى مصر أشهر صانع سفن في العالم قال عن الحاج أحمد: «إن لديكم كنزاً بشرياً لا يتكرر كثيراً، ويجب أن تحافظوا عليه، وهذا الكنز لو في بلد آخر لسجلوا كل كلمة وكل عمل له، حتى يورث للأجيال القادمة، إنه معجزة!». وقد استطاع أن يرمم المركب المفكك، الذي وصل عدد أجزائه إلى 1224 قطعة، وأطول قطعة وصلت إلى 23 متراً. وإذا دخلت في تفاصيل عملية الترميم فسوف تعرف مدى الجهد والصبر الذي تحمله هذا الرجل العظيم في إعادة المركب إلى حالته الطبيعية. وسوف يعرف القارئ قيمة هذا الرجل إذا قام بزيارة متحف مراكب الشمس الذي يقع جنوب هرم الملك خوفو.
هذه كلمات في حقّ رجل غادر هذا العالم...