إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

مهجر من دون بهجر

دخل بهجوري قاعة التحرير وفاجأنا بأنه صار مليونيراً. قال إنه فاز في مسابقة إيطالية للكاريكاتير، جائزتها رقم بستة أصفار. رأيناه يضحك ويبكي لأنه اكتشف أن المليون ليرة إيطالية «بقشيش». كان ذلك أواسط الثمانينات. والمطلوب من زميلنا رسام الكاريكاتير في مجلة «الوطن العربي» أن يرسم صورة ترافق المقال الأسبوعي للأستاذ غسان الإمام. الكاتب «يرسم» بالقلم شخصية تشغل العالم، والفنان «يكتبها» بالريشة. تذهب المواد وتعود من المطبعة فأتحايل على موظف الأرشيف لكي يعطيني الرسومات.
بالنسبة لي، كان بهجوري رساماً من رائحة «صباح الخير»، المجلة القاهرية التي كنت أنتظرها عند كشك التحرير، أمام مدرستي في بغداد، وألتهمها من الجلدة للجلدة. أجلس معه وأنبهر بأنه كان صديقاً لإحسان عبد القدوس وصلاح جاهين وعبد الحليم ونادية لطفي وأحمد زكي. تجرأ ورسم كاريكاتيراً عن أم كلثوم في «روزاليوسف». وبعد النشر رنّ التليفون في المجلة وسمع الرسام صوتاً يقول له: «أنا محمد عبد الوهاب». وتصوّر بهجوري أن أحد الزملاء يعاكسه فأجاب: «اطلع من دول». ثم اكتشف أن المتكلم هو بالفعل عبد الوهاب، وهو يتصل ليبلغه بأن «الست» زعلانة منه وعليه مصالحتها. كان الرسم الذي ضايقها يصوّر بهجوري داخلاً إلى حفل غنّت فيه «أنت الحب»، ثم يخرج قبل انتهاء الحفل ويدخل محل أسطوانات ليشتري «أنت عمري».
بعد شهور ذهب مع مفيد فوزي إلى كافتيريا «الشيراتون». يقول إنها كانت «الموضة» في السبعينات وملتقى أهل الصحافة والفن.
وكان هناك كمال الطويل الذي دعاهما إلى طاولته. ثم دخلت أم كلثوم مرتدية نظارتها السوداء وقام الطويل للترحيب بها.
جلست معهم و«خزرت» بهجوري بنظرة قاسية ولم تتكلم معه. كان قبل ذلك قد صالحها بلوحة جميلة ظهرت على غلاف «صباح الخير». وأبلغته الإذاعية آمال فهمي أن «الست» أُعجبت بالصورة بحيث إنها اقترحتها غلافاً لأسطوانة. لم يمضِ شهر لم يرسمها فيه. أنجز لها عشرات اللوحات. كأنه كان يعاند نفسه ليخترق روح كوكب الشرق. يقول إن لكل وجه مفتاحاً. ومفتاح أم كلثوم الأنف والخدان، «أنف مكوّر وخدين ملزلزان والدقن داخل في الرقبة».
ترك بهجوري باريس وعاد إلى القاهرة. انتقل إلى رسم لوحات زيتية وأيقونات. أقام معرضاً كبيراً واحتفى به محبوه بمناسبة بلوغه الثامنة والثمانين. أعود إلى كتابه «بهجر في المهجر» وأتذكره وهو يجلس في المقهى، أو يركب المترو ويفتح كراسته ليرسم وجوه الناس. بيض وسود وصفر وحمر. تتكدس عشرات الكراسات في مرسمه وآلاف السحنات. فنان عاصر أسماء لها رنين الذهب، يحتاج إلى متحف وحده.
رسام الكاريكاتير الساخر والفنان العالمي جورج عبد المسيح بشاي شنودة ساليدس جرجس، وُلد عام 1932 في محافظة قنا بالقرب من قرية بضواحي نجع حمادي مشهورة بزراعة القصب والنخيل تسمى بهجورة وإليها يرجع اسمه الفني. هو الابن الثالث في أسرة متوسطة عاشت ما بين الأقصر والمنوفية والقاهرة.
تخرج في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة. درس في كلية الفنون الجميلة بباريس قسم التصوير. عمل رساماً كاريكاتيرياً منذ عام 1953 حتى عام 1975 في مجلتي «روزاليوسف» و«صباح الخير». سافر إلى باريس في عام 1975 وأقام بها حتى عودته إلى القاهرة مرة أخرى في تسعينات القرن الماضي.
أقام البهجوري عشرات المعارض في سائر أرجاء العالم. فاز بجوائز كثيرة، منها الجائزة العالمية الأولى في الكاريكاتير في روما عامي 1985 و1987.