حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

احذروا «صندوق التعافي»!

اليوم يكون قد انقضى الشهر السابع على بدء ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول).
واليوم يكون قد مضى الشهر الرابع على تأليف الحكومة (الواجهة) في 21 يناير (كانون الثاني).
عرف الزمن اللبناني الانهيار، والإفلاس، فالبطالة، والمجاعة قبل الجائحة التي من المبكر تحديد الخسائر المتأتية عن تداعياتها السلبية. أدى ذلك إلى ثورة أكتوبر التي أنزلت إلى الساحات مليوني لبناني، قالوا نريد استعادة حقوق سلبتها القوى الطائفية المتحكمة، وتوحدوا من أجل وضع حدٍ لعقود من انتهاك الكرامات. كان المنتظر خطوات بسيطة، أو قرارات تمكن السلطة من استعادة القليل من الثقة المفقودة، لكن الحكومة التي شكّلها «حزب الله» أضاعت 4 أشهر في مراقبة التردي المتعاظم من شحّ الدولار، إلى انهيار سعر الصرف، وتبخر رواتب الناس التي نُهبت مدخراتها، وصولاً إلى اتساع خريطة الجوع، وما حمله هذا الوضع من مؤشرات مقلقة نتيجة فقدان الاستقرار الاجتماعي.
القلق ومظاهر الاحتجاج، قوبلت بالترهيب والعصي الغليظة واستدعاءات طالت الناشطين، لكتم الأصوات الرافضة للفساد والنهب، والتلويح بقمع الحريات، كي يتاح لأصحاب القرار الممسكين بالسلطة الفعلية خلف هذه الحكومة بلورة المنحى الخطير الذي يتم دفع لبنان إليه. إنه منحى يتجاوز من حيث الخطورة كل نهج صفقات نظام المحاصصة الطائفي وفساده، إلى بلورة صيغة سميت «صندوق التعافي»، تُتيح للنهابين تبييض أموالهم، من خلال شرائهم أصول الدولة، فيخدم هذا المنحى مخطط تعويم العهد والرئاسة وإرساء صيغة جديدة للتحكم في مستقبل البلد لعقود آتية!
بدأ كل شيء في «خطة الإنقاذ» الحكومية، وهي في واقع الأمر مشروع تصحيح مالي لا يرقى إلى مستوى الخطة التي تتعاطى مع مصالح وطن وحقوق مواطنين وحاجاتهم. من البداية، لم تستند الخطة إلى دراسة متكاملة لوضع البلد، أي إمكاناته وموجوداته وحقوقه المهدورة، ثم تعهدات الإصلاح التي تحولت تمنيات، فحاجات حماية الصحة والمعيشة، إلى استعادة الدورة الاقتصادية، وتأسيساً على ذلك يكون التوجه للجهات الخارجية... كل ذلك لم يحصل، بل منذ تشكلت الحكومة، جرى حديث عن الحاجة لاقتراض ما بين 15 و20 مليار دولار خلال 5 سنوات، أي «معالجة» المديونية بزيادة في الدين! ومع الوقت تراجع الحديث عن استعادة الأموال المنهوبة، وهو أمر يعني كل المواطنين، ويتطلب إجراءات قضائية عالية. جرى وضع مئات الناشطين المدنيين وراء القضبان، ولم يقبض على شخصٍ واحد متهم بالنهب والفساد، حتى الدعايات المتلفزة التي رافقت مصادرة كميات من المخدرات لم تسفر عن القبض على تاجر مخدرات واحد!
تقول القاضية صونيا نصر إن ضبط ملف فساد واحد يغطي من العجز مرتين أكثر من الديْن المطلوب من صندوق النقد الدولي، وتضيف إنهم ذاهبون إلى الاستدانة «لأنهم ما شبعوا»، ونهجهم «إعلان؛ ضمني بشكله، صريح في مضمونه، عن أن مقولة مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين واستعادة أموالنا المنهوبة انتهت في سلة مهملاتهم إلى غير رجعة!»... وكي يكتمل النقل بالزعرور، استمر الموقف الحكومي «محايداً» من اتساع ظاهرة التهريب التي فضح حجمها حاكم مصرف لبنان، عندما أعلن أنها تستنزف 4 مليارات دولار سنوياً! هي في حقيقتها تسريب وسرقة لدولارات اللبنانيين المتبقية في مصرف لبنان لتمويل استيراد سلع رئيسية!
هنا بدأ طرح موضوع «صندوق التعافي!!» يحتل الصدارة، فوصفه مؤخراً النائب جبران باسيل بأنه «الصندوق السيادي» الذي يعوّل عليه لإقامة مطارات ومترو وسكك حديد (...)، ومعروف أن كل هذه الوصفة كان قد ربطها باسيل سابقاً بتحول لبنان إلى بلد نفطي. في مشروع موارد الصندوق ناحية متعلقة بالودائع والهندسات والفوائد، وناحية متعلقة بملكية الدولة وأصولها، والتبرير الأبرز للخطة هو السعي لتأمين تعويض المودعين، لذلك تتحدث الخطة الحكومية عن شطب جزء كبير من الودائع من قيود المصارف بتحويلها إلى الصندوق، ليتولى الأخير تعويض أصحابها، إنما دون التزام أي مهلة زمنية، ومع غياب أي إشارة عن نسبة التعويض وحجمه!
في الجانب المالي، يلفت الانتباه اعتزام استعادة فارق الهندسات المالية، التي أجراها مصرف لبنان، فهل كان الأمر من دون ثمن دفعته المصارف؟ ثم استعادت الفوائد الكبيرة من المودعين، وهذا أمر له إشكالية، كون تلك الفوائد تمت وفق القانون، ألم تُستخدم الفوائد لتشجيع عشرات ألوف اللبنانيين العاملين في الخارج على تحويل أموالهم إلى المصارف اللبنانية؟ ألم يتلقَ هؤلاء التطمينات من الجهات الرسمية، فحوّلوا جنى أعمارهم من المال الحلال الذي جمعوه بالعرق والدم، فيما كان تصنيف لبنان الائتماني يتراجع دراماتيكياً!
ويتردد أن أصول الدولة التي تشمل القطاعات المنتجة ومئات الكيلومترات من أغلى الأراضي ثمناً، بينها كل الواجهة البحرية الممتدة من الناقورة جنوباً إلى العريضة شمالاً، تضاف إليها المشاعات... يتردد أن هذه الأصول ستطرح للاكتتاب بها (...) وهكذا بعدما أدت المنهبة إلى إفقار أكثرية اللبنانيين، وتمت مصادرة ودائعهم التي قامر بها «كارتل» مصرفي - سياسي، لن يبقى لشراء الأصول إلا الأثرياء الجدد الذين سيعمدون إلى تبييض أموال متأتية عن النهب من خلال شراء البلد، وكل الخشية أن تتم مثل هذه العمليات بأبخس الأثمان! والأمثلة كثيرة عما جرى في أكثر من بلد في شرق أوروبا!
قفز النائب باسيل فوق دور الحكومة التي يرأسها البروفسور دياب، وطرح مشروعات ربط بينها وبين مهام الصندوق، الأمر الذي طرح أسئلة كثيرة عن الجهة التي ستدير هذا الصندوق (...) أي وضع البنية الاقتصادية التي تشمل أصول الدولة ومعظم الواردات الضريبية، فيما هي عرفاً وقانوناً ملكية الشعب اللبناني! فهل يراد من هذا المنحى تعويم الوضع الراهن في قمة السلطة؟ ورهانهم أن هذا الأمر لن يزعج «حزب الله» لأنه ما من إجراء طاول الاقتصاد الموازي الذي يديره، والذي مكّنه من رعاية التهريب من لبنان إلى سوريا، وإلى السوق اللبنانية المغرقة بالسلع الإيرانية!
خطير جداً ما يواجهه لبنان، والأخطر هو المخطط المرسوم كمهام لـ«صندوق التعافي»، وأكبر تحدٍ يتمثل في عدم أخذ وضع المواطنين اللبنانيين وحقوقهم ومصالحهم في الاعتبار، وكأنه عليهم القبول بعد نكبة الانهيار بنكبة الجائحة التي لا يعرف أحد كل تداعياتها، ثم النكبة التي حِيكت بإتقان، وتتربص بالمستقبل، وتهدد بتحويل ملكية الشعب اللبناني إلى سلعٍ تباع في سوق النخاسة!